03/06/2010 - 11:25

الغرب يتراجع../ جميل مطر

الغرب يتراجع../ جميل مطر
كانت فكرة تراجع الغرب أملاً وأمنية من أغلى أمنيات أجيال عاشت في العالم الثالث تحت وطأة الاستعمار الغربي. كان الغرب وقتها يعني بالنسبة لهذه الأجيال غطرسة وعنصرية واستغلالاً. وكان يعني في الوقت نفسه أحقاداً متبادلة في داخله ووحشية وحروباً دامية هلك فيها الملايين من أبناء الغرب وبناته خلال حربين كان الدافع لنشوبهما سباقاً استعمارياً على أسواق إفريقيا وآسيا في المرة الأولى، وسباقاً استعمارياً من نوع آخر بين ألمانيا والاتحاد السوفييتي على وسط وشرق وجنوب أوروبا في المرة الثانية.

وبعد الحرب العالمية الثانية كنا شهوداً على حرب باردة كانت في حد ذاتها، بمعنى من المعاني، سباقاً على التركة العالمية للإمبراطورية البريطانية بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.

بالقياس نفسه، أتفق مع باتريك سيل على أن جيلنا كان شاهداً على حرب باردة عربية نشبت بين قوى “تقدمية” في العالم العربي وقوى “محافظة”، فاشتهرت كصراع أيديولوجي، بينما كانت في حقيقتها في رأيي، أو على الأقل امتدت جذورها إلى سباق بدأ في العشرينات من القرن العشرين على تركة الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأوسط.

ولعلنا بعد مائة عام من تاريخ انطلاق السباق على هذه التركة أصبحنا أكثر وعياً بخطورته ونحن نراه يتجدد ونرى ساحته وقد تخلى عنها متسابقون من العرب، تقدميين كانوا أم محافظين أو من غير هؤلاء وأولئك، ويحل محلهم الأتراك والفرس واليهود.

إنه الموضوع الذي يستحق أكثر من التأمل، وبخاصة بعد أن تعددت الصدامات الدبلوماسية والتحرشات المتبادلة بين إيران واليهود وبين الأتراك واليهود، وبعد أن أصبحت حقيقة واضحة نية العرب البقاء خارج هذا السباق في انتظار ما يقرره الغرب لهم من أدوار، أو ما يقيمه لهم من منظمات وتكتلات إقليمية، تماماً كما فعلوا وفعل في مطلع القرن العشرين.

تجدر ملاحظة أنه بينما كان الغرب في مطلع القرن الماضي يستعد لنهضة جديدة تقودها الولايات المتحدة التي كانت تراقب باهتمام متزايد وقلق بدايات انحسار الإمبراطورية البريطانية، فإنه الآن يستعد للانحسار في غياب دولة قائدة توقف التراجع وتقود صعوداً جديداً.

تصور الأوروبيون أنهم باتحادهم وتكاملهم وعملتهم الموحدة، يستطيعون أن يمثلوا ذات يوم القوة الاستعمارية والسياسية التي يمكنها أن تشد أزر الولايات المتحدة في لحظات ضعفها. هذا الضعف الذي يصيب أمماً سمحت لنفسها بالترهل، أو تضاربت القيم فيها، أو بالغت في نشر أنشطتها والتزاماتها العسكرية حول العالم.

وكان الأمل الأوروبي يتجدد استناداً إلى أن فلسفة الاقتصاد الحر التي انتصرت انتصاراً باهراً على فلسفة الاقتصاد الاشتراكي، ستظل الطاقة الدافعة وراء قوة الغرب المادية والعسكرية، ومبرراً لحملات التبشير بالقيم الغربية الروحية والسياسية في أنحاء العالم المختلفة.

تكفلت الأزمة الاقتصادية العالمية التي نشبت في الغرب، ومنه انتقلت بدرجات متفاوتة إلى أكثر دول العالم، بتقديم الدليل الملموس على أن الغرب يتراجع، وأكدت في الوقت نفسه شكوكاً قوية أحاطت بفلسفة الاقتصاد الحر، وأثارت الخشية من أن التراجع هذه المرة قد يكون أشد خطورة. لم يكن النمو الاقتصادي في الصين والهند والبرازيل ثم روسيا إلى حد ما سوى السبب الظاهر لتسرب الشعور بأن الغرب يتراجع، كان السبب الحقيقي صعود فلسفة “رأسمالية الدولة” وانحسار فلسفة الاقتصاد الحر وانكماش دائرة المتحمسين لتطبيقاته.

يثير إيان بريمر في كتابه الجديد بعنوان “نهاية السوق الحرة” ملاحظة مهمة وهي أن كافة الاقتصادات الناهضة تعتمد “رأسمالية الدولة” نظاماً اقتصادياً تحقق بفضله درجة أسرع في النمو، وتضمن به حداً معقولاً من العدالة الاجتماعية، وفي الوقت نفسه تحفظ الاقتصاد الوطني من تقلبات الاقتصاد الرأسمالي.

ويكرر بريمر ما سبق أن ردده المسؤولون في البرازيل والصين على أن بلديهما استطاعا تفادي عواقب الأزمة المالية العالمية، بل وساهما في عمليات إنقاذ النظام الرأسمالي وقت الأزمة العنيفة بالتزامهما نظاماً اقتصادياً يحمي الاقتصاد العالمي من سلبيات “الرأسمالية التقليدية”.

لا أتردد في الاعتراف بأنني واحد من الذين يعتقدون أن رأسمالية الدولة مرشحة للاستمرار بل ولانتشار أوسع، تقف وراء هذا الاعتقاد اقتناعات أكثرها براجماتي الطابع، فحكومات الدول الناهضة أو التي تسعى لزيادة معدلات نموها، قد تكون مقتنعة فعلاً بأن القطاع الخاص يستطيع المساهمة بدور فعال في زيادة معدلات النمو، ولكنها تعرف يقيناً أن رأسمالية الدولة توفر لها ما هو أهم بالنسبة لها، أو لأغلبها، وهو أمن الأنظمة الحاكمة واستمرارها في الحكم، لأنه أقرب السبل وأكثرها شجاعة للسيطرة “أمنياً” على قطاعات الاقتصاد كافة، فضلاً عن أنه يتيح أكثر من أي نظام آخر تمويل عمليات “تجنيد السياسيين” وتوظيفهم وتوظيف أولادهم، ويمنح الحزب الحاكم أو الطبقة الحاكمة قوة إضافية لتستخدمها في الضغط على المعارضين وإرضاء المحتجين.

بمعنى آخر أتصور أن حركة الاقتصاد الحر وأنشطة القطاع الخاص وفلسفته سوف تستمر خاضعة لقيود تجعل حرية السوق، كبقية الحريات في المجتمع، مقيدة بمصالح الأقلية الحاكمة واحتياجاتها أكثر من ارتباطها بعقيدة الرأسمالية وحق الأفراد في ممارسة النشاط الاقتصادي. والمتوقع، كما أثبتت تجربة علاقات الغرب مع الصين، أن الغرب صار مع الوقت أكثر اعتماداً على عائد هذا النظام الاقتصادي، وربما تكونت له مصلحة في تشجيعه والمحافظة عليه.

بهذا المعنى وفي هذا السياق يمكن فهم ما يقصده المحللون وعلماء السياسة والاقتصاد حين يكتبون ويحاضرون عن تراجع الغرب وانحدار فلسفته بالمقارنة بصعود فلسفات اقتصادية وسياسية في مناطق أخرى من العالم.

وبالمعنى نفسه يمكن فهم تحذيرهم من خطورة الزيادة الرهيبة المتوقعة في معدلات الفساد السياسي والمالي، وفي التعديات على الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين في الدول التي تعتمد رأسمالية الدولة. في رأيهم ورأينا أيضاً أن سكوت الدول الأوروبية والولايات المتحدة عن الانتهاكات التي ترتكبها بعض الحكومات الملتزمة فلسفة المزج بين رأسمالية الدولة والنشاط الحر أو تعاملها معها بانتهازية، دليل قوي آخر على تراجع الغرب.
"الخليج"

التعليقات