24/10/2010 - 08:34

عدالة ساركوزية وأخلاقية برلسكونية!../ عبد اللطيف مهنا

-

عدالة ساركوزية وأخلاقية برلسكونية!../ عبد اللطيف مهنا
كان دائماً للعنصرية الأوروبية التليدة نسختها الفرنسية التي لا تعدم نكهتها الخاصة. هي ليست كسواها التي تعددت بتعدد العناوين الأوروبية الأخرى وتعدد مظاهرها ودرجاتها. ظلت مواريث الثورة الفرنسية، أو مبادئ الجمهورية، تحد من سورتها وتخفف من غلوائها وأحياناً تتستر على سوءاتها. لكنما الساركوزية تعطيها اليوم حقنة تنعشها وتستدرجها من كمونها وتستلها من غفوتها. على العموم هي حالة من التململ العنصري الذي بدأ يسري هذه الأيام بتفاوت في سائر الجسد الأوروبي، هذا المكتنز عبر تاريخه تراكماته الثقيلة المزمنة من عدائه الدائم للآخر. الإسلاموفوبيا الآن وفي هذه المرحلة تختزل هذا العداء وتحفزه وتطلقه من عقاله.
 
في مقال سابق، قلنا إن هذه القارة انفردت وحدها في عالمنا بإنتاجها لأعتى وأبشع الفلسفات العنصرية والفاشية، مثل النازية والصهيونية. واليوم ونحن نتحدث عن فرنسا، لا يفوتنا أن نتذكر أن النازية في أصولها كانت فرنسية المنشأ، بيد أن الألمان، وهم الذين نشأت في ديارهم أعظم الفلسفات، لا يطبقون عادةً إلا أسوأ ما لدى الآخرين!
 
نحن هنا، لسنا بصدد الحديث عن أعراض الإسلاموفوبيا الفرنسية، أو الأوروبية إجمالاً، والمستظلة هذه الآونة بخرافة "الإرهاب الإسلامي". أو، ونحن نتحدث عن فرنسا بالذات، لسنا في وارد التعرض لحكاية الحجاب أو النقاب، أو الاندماج، ومشكلات سكان الضواحي الذين جوهر النظرة الساركوزية المعروفة إليهم لا تتعدى كونهم نفايات بشرية لا أكثر. وإنما سنعرض لمأثرة فرنسية جديدة، كادت أزمة تمديد فترة سن التقاعد المستشرية راهناً بين ساركوزي والنقابات تغطي عليها. بل هي طغت، وإن إلى حين، إعلامياً عليها ودفعتها بعيداً، بحيث لم تعد الآن تتصدر قائمة الأحداث الفرنسية كما بدت قبل أيام ليست بالكثيرة. إنها حكاية تحوّل وزيرة العدل الفرنسية ميشيل ليو ماري إلى مدعٍ عام. المدعى عليه هو السيناتور، عضوة مجلس الشيوخ الفرنسي، عليمة بومدين وثمانون من رفاقها. والتي سوف تقدم إلى المحاكمة بتهمة شنها لحملةٍ تدعو لمقاطعة منتجات "المستوطنات" في الضفة الفلسطينية المحتلة. تقول وزيرة العدل:
"لن أقبل أبداً أن يدعو أشخاص أو جمعيات أو مسؤولون سياسيون إلى مقاطعة أي بضائع في فرنسا بحجة احترامها للتعاليم اليهودية، أو مجيئها من إسرائيل. وأتمنى أن تظهر النيابة المزيد من الحزم اتجاههم"!
 
الوزيرة الفرنسية، أولاً، تعتبر منتجات "المستوطنات" أو المستعمرات الإسرائيلية في الضفة المحتلة تتمتع بالحصانة، أو تعدها تابو لايجوز مقاطعتها ولا ترى سبباً لمقاطعة من يقاطعها إلا لاحترامها للتعاليم اليهودية!
 
وثانياً، ضمت الضفة سلفاً للمحتل من فلسطين عام 1948، أو "إسرائيل"، حتى قبل أن يعلن نتنياهو ذلك رسمياً، ذلك عندما تقول: "مجيئها من إسرائيل".
 
 وثالثاً، تقع في تناقض مع ما كان منها قبل عام فقط عندما قالت بخصوص ذات المسألة أمام الجمعية الوطنية الفرنسية بأنه لا يوجد ما يوجب الملاحقة القضائية. لكنها الآن وقد وقفت أمام المجلس التمثيلي للجمعيات اليهودية غيرت موقفها ذاك... ثم إنها لفرط حماستها نسيت وهي ترفض مقاطعة بضائع الاحتلال، أن فرنسا هي رأس الحملة الأوروبية الداعمة للسياسة الأمريكية - الإسرائيلية لفرض مسلسل العقوبات وضروب المقاطعة على إيران لأنها تصر على مواصلة برنامجها النووي السلمي... ما هي تهمة السيناتور عليمة بومدين ورفاقها؟!
 
إنها تهمة "التمييز العنصري والقومي والديني" مرة واحدة... وهنا، ورغم أن تقرير الشرطة قد دفع بعدم وجود دوافع "لا سامية" أو عنصرية في حملة السيدة عليمة، فإن العنصرية الفرنسية تشهر بيد وزيرة العدل سيفها في وجه مناصري الحقوق الفلسطينية المغتصبة، ولصالح المحتلين المستعمرين الموصومين في التقارير الدولية بارتكاب الجرائم ضد الإنسانية، والممارسين أمام أنظار العالم وسمعه أبشع ضروب التمييز العنصري والقومي والديني وقوننته ضد الفلسطينيين، وذلك بزعم التصدي ل"التمييز العنصري والقومي والديني"!!!
 
هنا، ما هم، حتى ولو كانت عليمة بومدين ليست وحدها، حيث وقع على عريضة تؤيدها عديد المفكرين والفلاسفة والإعلاميين والشخصيات الفرنسية، من بينهم ستيفان هيسيل، المقاوم البارز للاحتلال النازي، ومحرر إعلان حقوق الإنسان العالمي، والسفير السابق، وأيضاً اليهودي. فكل ما يهم هو عدم المس بالعصمة الإسرائيلية، بالتجرؤ على المس بإسرائيلهم، وعليه، فالمطلوب هو إسكات وإخافة هذه الأصوات المنتقدة وإرهابها، وجعلها عبرة لسواها، لا سيما وأن حملة عليمة بومدين، حتى الآن، يقال إنها قد نجحت في تراجع الصادرات الإسرائيلية بنسبة 10%. لكنما يظل الأهم بالنسبة لهم هو ما يستشعرونه من الرعب من ما تعنيه بدايات هذا التحول الشعبي الأوروبي المتبرم من تليد الابتزاز الصهيوني، والذي رغم بطئه يظل لصالح مزيد من التفهم، ولا نقول التأييد تماماً، للحقوق الفلسطينية المهدورة والمستباحة. ولإدراكهم مكرهين أن حملة عليمة بومدين والضجة التي رافقتها أو أثاروها هم ضدها، ومهما كانت نتائجها، سوف يكون حصادها شاءوا أم أبوا في غير صالح إسرائيلهم.
 
الساركوزية لم تخترع العنصرية الفرنسية، ولا انحياز أوروبا الدائم لإسرائيل، هذه القارة التي بطشت بيهودها، أو كرهتهم بين ظهرانيها فصدرتهم لنا، وبالغت في تعويضهم لكن على حسابنا... برلسكوني، مثلاً، وجه رسالة لمظاهرة تأييد لإسرائيل سارت في شوارع روما، يقول فيها: "أشعر بأنني إسرائيلي"، ويؤكد للمتظاهرين، بأن: "أمن إسرائيل داخل حدودها، وحقها في الوجود كدولة يهودية، هما بالنسبة لنا نحن الإيطاليين خيار أخلاقي وواجب معنوي"!
 
لكن الساركوزية دأبت منذ برز صاحبها في السياسة الفرنسية على حقن العنصرية الفرنسية بأمصالها، وكان هذا منذ أن كان ابن المهاجر المجري وزيراً للداخلية، وتلك الأيام المعروفة بانتفاضة الضواحي الباريسية، وهي لا تنفك توقظ هذه العنصرية من غفوتها لحشد اليمين الفرنسي وكسب تأييد صهاينة فرنسا في معاركها السلطوية.  وصاحبها هذه الأيام في أمس الحاجة لمثل هذا وهو يخوض معركة كسر العظم مع النقابات تحت عنوان تمديد سن التقاعد لسنتين إضافيتين... لقد مل الفرنسيون ساركوزيهم، ولم تعد حركاته الاستعراضية، وتتالي فضائحه تسليهم، بل غدت صراعاته الإعلامية، وإخفاقات مبادراته الدولية، التي تظل الأقرب إلى نوع من المراهقة السياسية وانكفاءاته السريعة عنها، عبئاً على فترة رئاسته الأولى المقتربة من النهاية، وقد تكون في الأغلب حائلاً دون تجديدها. كان بوشياً، ثم أوبامياً، ثم متوسطياً، ونتنياهوياً. ولطالما حاول أدواراً أخطأته أو عزّت عليه في أفغانستان وباكستان والسودان والشرق الأوسط، وعاد منها جميعاً بخفي حنين. ولا يبدو الآن أن إجادته المشهود لها لفن الإثارة في سبيل البقاء سوف تجديه طويلاً وقد نزل الفرنسيون إلى الشوارع...
 
... فيما يتعلق بقضايانا تحديداً، وبالنسبة للساركوزية، والبرلسكونية، وشقيقاتها الأوروبيات الأخريات، ليس هناك من خيار، لا أخلاقي ولا معنوي ولا إنساني، إلا على طريقة ميشيل لوي ماري، أو هو إن وجد فهو في هذه الحالة الخيار المعكوس وفق المنطق البرلسكوني!

التعليقات