31/10/2010 - 11:02

دساتير الأسماك الميتة!/ محمود المبارك

-

 دساتير الأسماك الميتة!/ محمود المبارك
إذا كان من سمة بارزة تفرق بين عقلية العالم العربي وعقلية العالم الغربي من الناحية السياسية القانونية، فهي مسألة احترام القوانين عموماً، والقانون الدستوري على وجه الخصوص. ذلك أن الدساتير في عالم الغرب تحاط بهالة من التقديس، تجعل من الصعب جداً التلاعب بها لأجل المصالح الخاصة للسياسيين المتنفذين. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يتطلب تعديل الدستور موافقة ثلثي أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب، إضافة إلى تصديق الرئيس، وذلك أمر غير يسير لمن عرف الحياة السياسية في الولايات المتحدة. ومع ذلك، فلا يتوقع لأي تعديل دستوري في الولايات المتحدة أن ينقض الأسس أو المبادئ التي قامت عليها الدولة الأميركية. وليس أدل على ذلك من أن الدستور الأميركي شهد سبعة وعشرين تعديلاً، لم يمس أي منها الأسس التي يقوم عليها الدستور.

وتبعاً لذلك، فإن الزعيم السياسي في عالم الغرب سواء أكان رئيساً للجمهورية أم رئيساً للوزراء، أو غير ذلك، لا يملك أن يفرض رأيه في تغيير أو تعديل أي مادة من مواد الدستور، ولا أن يتحايل على ذلك. أما في العالم العربي فالأمر مختلف جداً.
هذا الاختلاف في الفكر والعقيدة السياسية القانونية، يعكس الفرق بين فهم المجتمعات الغربية والعربية حول «تقديس» القانون الدستوري أو الاستهتار به. ففلسفة الفكر السياسي الغربي تقوم على أن الدولة أساسها الشعب، وهو الركيزة التي يقوم عليها البناء السياسي. وليس أدل على هذا من أن يُستفتح الدستور الأميركي بعبارة «نحن الشعب الأميركي»، إذ هي كلمة لها مدلولاتها السياسية والفلسفية العميقة، في حين تفتتح دساتير الدول العربية باسم الزعيم وبأمره، إذ لا أحد أعلم منه بمصالح البلاد والعباد! ومن ثم، فإنه ربما جاز للزعيم استخدام المؤسسات السياسية في بلده ومنها المجالس النيابية لتعديل أي مادة من مواد الدستور لتحقيق مآربه السياسية.

في هذا الخضم، يأتي التعديل المقترح في الدستور الجزائري، ليجيز للرئيس البقاء لفترة ثالثة، في ظاهرة تتناسب مع تاريخ الأمة العربية العريق في تعديل دساتيرها من القمة وليس من القاعدة، ليؤكد من جديد عمق الأزمة الدستورية في الفهم القانوني العربي، الذي ليس مقصوراً على الجزائر وحدها، إذ قامت دول عربية عدة بتعديل دساتيرها، لتتسنى الفرصة لزعمائها لتجديد فترة بقائهم في السلطة.
وقبل عام شهدت مصر تعديلاً دستورياً - لم يكن الأول من نوعه - تمّ بموجبه تعديل 34 مادةً من مواد الدستور! ويجري الآن الإعداد لتعديلات أخرى تشمل مسألة التوريث المثيرة للجدل، والتي يبدو أن الرئيس سيوافق عليها «نزولاً عند رغبة الشعب»! لأن «رغبة الشعب» هي الصخرة التي تتكسر فوقها آمال الزعماء العرب، إذ نقض زعيمان عربيان وعوداً سابقة بعدم الترشح للرئاسة لفترات إضافية، استجابةً لـ «رغبة الشعب»، التي أصرت على ترشحهما من جديد!

وخلافاً لرغبة الشعب، قامت زعامات عربية بنقض وعودها الانتخابية، التي شملت وعداً صريحاً برفع حال الطوارئ، ربما لأن الزعيم وصل إلى مرتبة فوق مرتبة الوفاء بالوعد، أو مرتبة الالتزام بالدستور!
مثال ذلك، ما قام به زعيم عربي قبل عام، حين أمر بحل المجلس التشريعي - من تجميد العمل ببعض مواد الدستور من غير وجه حق، وإصدار قرارات خارجة عن سلطاته المخولة له بالدستور! وبالمنطق ذاته، يريد اليوم التمهيد لاستمرار فترة رئاسته - التي توشك على الانتهاء - على رغم أنف الدستور!
واقع الأمر أن الزعامات العربية التي تتلاعب بدساتير أمتها لا تستغفل شعوبها، وإنما تستغفل أنفسها ومن معها، لأن الشعوب - وإن كانت قدرتها على الاعتراض محدودة - إلا أنها لم تعد جاهلةً بما يدور حولها. على أن هذا لا يغني عن القول إن على الشعوب مهمة تاريخية، لا بد من التضحية من أجلها، إذا ما أرادت أن تصل إلى مرحلة احترام الدساتير التي وصلها الغرب. تلك التضحيات يمكن أن تجنى من دروس الأمم الأوروبية التي وقفت في وجه استبداد حكامها قبل قرون من الزمان، فكان من نتيجة ذلك أن شرعت دساتير لا يمكن العبث بها من الزعماء الأوروبيين.

كما أن على الشعوب أن تدرك أنها إذا كانت قبلت بالمقولة المعروفة «الله ثم الزعيم ثم الوطن»، فإنها بهذا المنطق قد وافقت على أن يذهب الوطن إلى الجحيم، ليدوم بقاء الزعيم!
وبدلاً من ذلك، لا بدّ للشعوب أن تتعلم أنه «كي تصل إلى النبع فإن عليها أن تسبح عكس التيار، فلا يجري مع التيار إلا السمك الميت»!

* حقوقي دولي

" الحياة"

التعليقات