31/10/2010 - 11:02

أزمة نخبة وإرادة أمة/ د. إبراهيم أبراش

-

أزمة نخبة وإرادة أمة/ د. إبراهيم أبراش
في كثير من الحالات نكتشف أن بعض المصطلحات والمفاهيم التي نداولها بيننا في حديثنا وكتاباتنا كل يوم وتشكل اللازمة في خطابنا السياسي مفاهيم مبهمة ،ملتبسة وحمالة أوجه وبالتالي خلافية،بحيث أن كل واحد يفسرها كما يريد أو يخضعها لمنطلقه الإيديولوجي أو لحسابات حزبية ضيقة،ويصل الأمر أحيانا أن أصحاب أو رواد هذه المفاهيم يصبحوا عاجزين عن الدفاع عنها ليس لقوة حجة ومنطق المناوئين بل لأن أصحاب المفهوم تعودوا على ترديده كشعار أو أيديولوجيا دون فهمه ودون الالتزام بمضامينه واستحقاقاته الإجرائية.من هذه المفاهيم أو المصطلحات ،المشروع الوطني الفلسطيني.

فمع انحراف التسوية عن مسارها وفي خضم انشغال الشعب الفلسطيني بمتطلبات الحياة اليومية بسبب سياسة الحصار التي يمارسها العدو ،وفي خضم انشغال النخب السياسية المأزومة بالصراع على السلطة ومكتسباتها الرخيصة،ومع الانقسام الجيوسياسي، تناسى البعض أن الشعب الفلسطيني ما زال تحت الاحتلال وأن المرحلة ما زالت مرحلة تحرر وطني ،ومرحلة التحرر الوطني تحتاج لمشروع وطني للتحرير وليس لسلطة تحت الاحتلال. هذا الخروج عن سياق التحرر الوطني جعل من يتحدث عن المشروع الوطني كمن يغرد خارج السرب أو كمن ينتمي لعالم قد ولى،وفد لاحظنا في الفترة الأخيرة أن مصطلح المشروع الوطني الفلسطيني يستفز البعض و يدفع آخرين للتساؤل باستغراب عن ماهية المشروع الوطني إن لم ينفوا وجود شيء يسمى مشروعا وطنيا،وإن كان الرفض والشك بالمشروع الوطني من طرف الكيان الصهيوني مفهوما لأنهم ينفون الوجود الوطني الفلسطيني كتاريخ وحقوق سياسية فإن غموض إن لم يكن رفض فوى سياسية واجتماعية فلسطينية ومنها الإسلام السياسي للمشروع الوطني هو ما يثير القلق،فليس مقبولا أو معقولا أن يدفع تعثر المشروع الوطني للتخلي عنه،يمكن التفكير بالتخلي عن أدواته من نخب وأحزاب وآليات عمل ولكن ليس عن المشروع بحد ذاته، وليس مقبولا وضع العلاقة بين المشروع الوطني الفلسطيني ومشروع الإسلام السياسي في نفس سياق واقع حال العلاقة بين الطرفين في الدول العربية والإسلامية حيث العلاقة بينهم متوترة إن لم تكن متناقضة وصدامية.

الخوف على المشروع الوطني الحديث،مشروع الحرية والاستقلال والدولة المستقلة،لم يعد مجرد كلام نظري أو تكرار لتحذيرات وتخوفات سابقة بل خوف تغذيه معطيات داخلية وإقليمية ودولية يمكن تلخيصها بما يلي:
1- وصول مشروع السلام الذي راهنت عليه منظمة التحرير الفلسطينية وهو المشروع الذي سعى لإنجاز المشروع الوطني من خلال العملية السلمية، لطريق مشدود،وسواء كانت إسرائيل وحدها هي السبب في الفشل أم أن التهج الفلسطيني في التفاوض وممارسات السلطة وغياب إجماع فلسطيني حول السلام ساهما في الفشل،فإن التسوية وإفرازاتها أصبحت عقبة أمام إنجاز المشروع الوطني .
2- انقلاب السلطة على المشروع الوطني .فبدلا من أن تكون السلطة الفلسطينية أداة مؤقتة لخدمة المشروع الوطني التحرري،تحولت لهدف بحد ذاته، فخلقت نخبها وشبكة علاقاتها المتعارضة مع استحقاقات مرحلة حركة التحرر فكرا وممارسة ،كما أوجدت شراكة مصالح مع الإسرائيليين وتحول الثوار أو ما تبقى منهم إلى موظفين ينتظرون الراتب من الجهات الأمريكية والأوروبية المانحة،وأزداد الأمر سوءا عندما تحولت حركة حماس لسلطة وأصبحت تمارس سلوكيات السلطة وتفرز نخب ومصالح سلطة، وتتعرض لإبتزازات من جهات متعددة.
3- وصول تهج المقاومة الراهن لطريق مسدود ليس لأن الخطأ في المقاومة ،فالمقاومة مكون رئيس في أي مشروع تحرر وطني،ولكن لأنها مورست خارج إطار إستراتيجية عمل وطني ولأغراض حزبية ضيقة وأحيانا لخدمة أجندة خارجية أو بهدف الوصول للسلطة.وكان أسوء ما وصلت إليه المقاومة الفلسطينية عندما اختُزِلت بإطلاق مقذوفات تسمى صواريخ واقتصرت على قطاع غزة دون بقية فلسطين.
4- الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة،وهو انقسام يزيد من القطيعة بين أبناء الشعب الفلسطيني ويزيد من الأحقاد بين من يقترض أنهم مواطنو شطري المشروع الوطني وهي أحقاد تؤسس لفتنة داخلية في الضفة وفي القطاع ، ،ولو كان الانقسام يؤسس لكيانين فلسطينيين مستقلين لكان من الممكن التفكير بسبل التواصل،ولكنه انقسام أسس لحالتين كل منهما لا زالت بدون سيادة ولا تصلح لتأسيس دولة ولحمل استحقاقات المشروع الوطني وهو الأمر الذي استدعى لأن يطرح البعض وصاية عربية أو دولية على الفلسطينيين.
5- زيادة تأثير التدخلات الخارجية في القضية الوطنية سواء تعلق الأمر بالولايات المتحدة الأمريكية والأوروبيين أو بأطراف إقليمية كالدول والتنظيمات التي ترفع شعارات الممانعة أو المسماة بدول الاعتدال.لا شك ان التدخلات الخارجية حالة مزمنة في القضية الفلسطينية ولكنها في الوقت الراهن أصبحت أكثر خطورة لأنها مرتبطة بمشاريع سياسية تتجاوز المشروع الوطني بل على حسابه..
6- توجه المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين واحتمال تشكيل نتنياهو لحكومة يمينية،ومع أن الفوارق ما بين اليمين واليسار في إسرائيل تقلصت لصالح اليمين إلا أن التوجهات السياسية لليكود تحت زعامة نتنياهو تشكل خطرا ليس فقط على نهج المقاومة بل وعلى مشروع السلام الفلسطيني حيث الخوف بعد تشكيل هذه الحكومة على الضفة والقدس وليس على غزة.
7- وجود تحركات دولية وإقليمية لتجاوز المشروع الوطني وهي تحركات مبنية على قناعة بوصول التسوية السياسية التي أسست لها اتفاقات أوسلو والتي راهن فلسطينيون من خلالها على قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع، لطريق مسدود ،وهذه التحركات تؤسس لمعادلة جديدة في المنطقة ستكون على حساب المشروع الوطني .

ما أشرنا إليه مؤشرات مقلقة على نجاح نسبي للإسرائيليين وأطراف أخرى في إدخال القضية الفلسطينية والمشروع الوطني في متاهات جديدة أبرز عناوينها اختزال فلسطين أرضا وشعبا في غزة والصراع حولها ،إلا أن إيماننا بعظمة الشعب الفلسطيني ،كفيل بتجاوز المرحلة وعدم جعل الانقسام والصراع على السلطة يغطى على حقيقة أن فلشطيين أمة و تاريخ .أمة تعدادها أكثر من عشرة ملايين نسمة نصفهم متجذر في أرضه ونصفه حمل معه الوطن أينما حل ويترك بصمات من الإبداع الحضاري أينما حل.

لا شك أن اخطر ما يهدد وجود امة هو تنكر نخبها وأحزابها لتاريخها وهيمنة استحقاقات الحاضر المتعلقة بالسلطة والحكم على الاستحقاقات الوطنية،ولكن التاريخ الفلسطيني أثبت أن النخب السياسية وكل أشكال الهيمنة هي التي زالت واندثرت ولم تندثر فلسطين الشعب والأرض لأن فلسطين تاريخ يمتد لحوالي أربعة آلاف سنة أي قبل مرور العبرانيين على فلسطين بوقت طويل.وعلى كل فلسطيني فلسطيني أن يتذكر دوما أنه عندما جاء العبرانيون إلى فلسطين وجدوا الشعب الفلسطيني هناك وهذا ما تنص عليه حتى كتبهم ،حيث تذكر التوراة في أكثر من موقع اسم فلسطين،فيوشع بن نون القائد العسكري للعبرانيين يقول : (وقد بقيت أرض كثيرة – لم يدخلها اليهود – وهي : كل دائرة الفلسطينيين وكل أرض الجاشوريين – أمام مصر – وأقطاب الفلسطينيين الخمسة – وهم : الغزي والاشرودي و الاشقلوني والجتي والعقروني) ،وفي العصر التالي – عصر النبي صموئيل –جاء في الكتاب المنسوب لهذا النبي (وخرج جيش بنو إسرائيل للقاء الفلسطينيين فانهزم بنو إسرائيل أمام الفلسطينيين ) وتكررت الهزيمة ( صموئيل الأول 4 : 7 ،وبعد ذلك توالت أشكال متعددة من الاحتلال والهيمنة وتعاقبت ديانات ،وهذه كلها أغنت ثقافة وهوية الشعب الفلسطيني وأصبحت جزءا منها،اليهودية والمسيحية والإسلام أصبحت من مكونات الثقافة والهوية الوطنية وليس بديلا عنها حيث ما زال الشعب الفلسطيني موجودا صامدا ومقاتلا ومنفتحا على كل جديد وفارضا وجوده السياسي على العالم .
إذ نذكر بهذا التاريخ بعد التحذير من المخاطر التي تهدد المشروع الوطني إنما لنؤكد أن مصير الشعوب لا تحدده النخب والأحزاب بل إرادة الشعوب وتمسكها بحقوقها الوطنية،وإن انتكاسة المشروع الوطني بصيغته الراهنة قد يؤجل الحلم بالاستقلال والحرية ولكنه لن ينه القضية الوطنية،وأمة حافظت على وجودها وعلى اسمها طوال أربعة آلاف سنة، أمة تستحق الحياة ومن تاريخها تستمد صمودها .



التعليقات