31/10/2010 - 11:02

أسوأ من "خطة النصر" خطاب بوش في شرحها/جوزف سماحة

أسوأ من
دخل جورج بوش، أمس الأول، ليلقي خطابه في الاكاديمية العسكرية البحرية في انابوليس. الجمهور هو نفسه: جنود منضبطون. الرئيس هو نفسه: مشية مختالة، صدر منفوخ، ابتسامة تحرمها العينان الفارغتان والزائغتان من اي معنى. الخطاب هو نفسه: جمل متقطعة، عبارات وظيفتها استدرار التصفيق، شعارات، معطيات محدودة يراد لها ان توفر صدقية. الديكور هو نفسه: لافتات عن "خطة النصر" (بعد "المهمة أنجزت") ومستمعون من الألوان والأعراق كلها يتشكلون في "لوحة" تريد الإيحاء بأن المشاركين في الحلم الاميركي مأخوذون بما يقوله قائدهم، ومتناسون كلهم ان هذا المنتصب امامهم، المتحدث باسمهم، المصمم على إرسالهم للقتال في بلاد بعيدة سبق له، مع معظم اركان ادارته من غلاة المتطرفين، التهرب من الخدمة العسكرية.

اعطي لخطاب انابوليس بعد دراماتيكي. قيل إنه الاول من سلسلة تنتهي عشية الانتخابات النيابية العراقية بعد أسبوعين. وقيل، ايضا، انه بداية "دروس تثقيفية" اخذها الرئيس على عاتقه من اجل شرح "الاستراتيجية الوطنية للنصر في العراق" التي كشف النقاب عنها في اليوم نفسه مع استدراك يقول انها الجزء المعلن من خطة متكاملة تزعم الادارة امتلاكها.

لقد كان واضحاً ان بوش يتصرف تحت ضغط، ليس ضغط الانتخابات العراقية وإنما ضغط الوضع الاميركي الداخلي. الانكفاء الشعبي عن تأييد سياساته يتأكد. الحزب الديموقراطي يمر في ارتعاشة تذكّر بعض قادته بأن المعارضة قد تكون مفيدة. الحزب الجمهوري يراقب استطلاعات الرأي، ويأخذ علما بنتائج الانتخابات الفرعية، فتخرج منه أصوات تحاول ان تتبرأ من الرئيس وأن تحذره من ان سياسته ستقود الى خسارة الانتخابات النصفية القادمة.

ويتصرف بوش تحت الضغط لأن واشنطن تعيش صخب نقاش يتناول "استراتيجية الخروج" من العراق. ويمكن القول، بلا مبالغة، ان الاسابيع الاخيرة شهدت تحولا لغير صالح "المحافظين الجدد". انه تحول في اتجاه التواضع وتبلور توافقات تريد الحد من الطموحات التغييرية لجناح في الادارة.

إلا ان هذا التحول لم يطل الرئيس شخصيا. صحيح انه يضغط عليه غير ان الرجل لا يعطي اشارات عن اي تأثر. فهو يثابر على إضجار مواطنيه، وغيرهم، بالخطاب المكرر نفسه، وبعشرات العبارات التي اخترعوها له من اجل التأكيد: سنكمل المسيرة. وهو لم يبد اهتماما الى ان المشكلة معه هي، بالضبط، رغبته في إكمال مسيرة يطالبه شعبه (اكثرية شعبه) ببدء التفكير في تغييرها.

ألقى الرئيس خطابه ونشر "خطة النصر". وراح المراقبون يدققون لرؤية اي جديد يدل على عودة الاتصال بين بوش وبين الواقع. وأمكن لبحث "اركيولوجي" ان يكتشف تحولا طفيفا هنا، او صياغة مختلفة هناك، او اعترافا عابرا تبعثر... الا ان البناء العام بقي نفسه: سنكمل المسيرة. تصرف بوش، كما وصفه صحافي اميركي، مثل "رجل مبرمج" تصدر عنه، من وقت الى آخر، همهمات وأصوات يفهم منها: لا بديل من النصر الكامل، سنبقى حتى إنجاز المهمة، لن نهرب امام الإرهابيين، لا جدولة لأي انسحاب، كل تراجع هناك ينقل الإرهاب الى هنا، الخ...

ولكن يبقى ان "الاستراتيجية الوطنية" قدمت تعريفات للمقصود ب"النصر" على المدى القريب والمتوسط والبعيد. وهذه التعريفات مهمة لأننا شهدنا على امتداد الفترة الماضية، لا بل منذ ما قبل الغزو، نوعا من "المناقصة" في تحديد معنى "النصر" الذي يشترط بوش الانسحاب بإنجازه.

بات النصر يعني، حسب الوثيقة الرسمية، ما يلي:
على المدى القصير: التقدم العراقي في محاربة الإرهابيين، احترام المواعيد السياسية، بناء المؤسسات الديموقراطية، تدعيم القوى الأمنية.

على المدى المتوسط: تحول العراق الى موقع قيادي في هزيمة الإرهابيين وتأمين أمنه الذاتي، قيام حكومة دستورية بالكامل، التقدم نحو الاستفادة من الطاقات الاقتصادية.
على المدى البعيد: قيام عراق آمن، موحد، مستقر، مندمج تماما في المجموعة الدولية، وشريك كامل في الحرب الكونية على الإرهاب.

تستعرض الوثيقة طبعا آليات تحقيق هذه الاهداف، وفوائد الانتصار، وعواقب الهزيمة، والخطوات المندمجة في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية، الخ... غير ان ما نقرأه فيها لا يعدو توصيفا للسياسات الجاري تنفيذها حالياً.

تفيد "الاستراتيجيا الوطنية" ان بوش لا يزال في مزاج الاهداف الطموحة وغير الواقعية وأنه، والحالة هذه، لا يعتبر اي خفض للقوات الاميركية جزءاً من برنامج انسحاب واضح. اي انه لا يزال يخالف الرأي القائل بأن الاحتلال هو جزء من المشكلة وليس جزءاً من الحل، كما انه يخالف ما صدر عن المؤتمر العراقي في القاهرة، ويصادر، مسبقا، نتائج الانتخابات التشريعية بعد ايام.

إذا كان من ملاحظة اجمالية على هذه الاستراتيجيا فهي التالية: لقد واجهت الولايات المتحدة، في الفترة الماضية، عراقا لا تعرفه، عراقا "خياليا". ولقد ادى ذلك الى الكارثة التي ادى إليها. والمشكلة، اليوم، ان الولايات المتحدة تصر على تقديم علاج للوضع العراقي وكأن مشكلات البلد هي المشكلات الموروثة عن النظام السابق وليست تلك التي اضافها الاحتلال او التي اوجدها الاحتلال.

لنأخذ مثلين فقط. تعتبر الادارة ان تدعيم القدرات الأمنية العراقية جزء من الحل. ولكنها هي التي ضربت هذه القوة لأنها، في مرحلة ما، كانت تحلم بعراق من دون جيش. هذا اولا. ثانيا ان المشكلة، هنا، ليست في تدعيم هذه القدرات وإنما في فرض التوازن ضمنها وفي عدم جعلها اسما شكليا لمضمون تحدده الميليشيات الطائفية او العرقية. بكلام آخر، ان التدعيم إذا استمر في الوجهة نفسها هو مشكلة وليس حلاً.
هذا اولا. ثانيا تتحدث الادارة عن المواعيد السياسية والمؤسسات الديموقراطية. وهي، هنا، تتجاهل تماما الفرق الهائل بين اكثريات سياسية وأكثريات ديموغرافية وتأثير ذلك على هوية الدولة الجاري بناؤها. نضيف الى ذلك ان الانتخابات قد تسفر عن توازن سياسي لا يملك حق الإمرة على اجهزة دولة بنيت في ظل انكسار كل توازن. وسيكون هذا، بدوره، مصدر اشكالات لا حصر لها.

القول ان الخطاب، كما الاستراتيجيا، لا يحمل جديدا لا يكفي. الحقيقة أنهما يفاقمان وضعاً خطيراً.


عن "السفير"

التعليقات