31/10/2010 - 11:02

اختيارات ناصرية لم تترهّل../ فيصل جلول

اختيارات ناصرية لم تترهّل../ فيصل جلول
عثرت أثناء إعداد كتابي الأخير “مصر بعيون الفرنسيين” على نص مختصر للمستشرق الفرنسي الراحل مكسيم رودنسون نشرته جريدة “لوموند” المسائية بعد يوم واحد من وفاة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. ينطوي النص على تقييم لتجربة “الريس” أرى أن بعضه ما زال مهماً الى حد كبير ويجب أن يعمم في الذكرى التسعين لولادة “الريس” يقول رودنسون”... الناصرية كما عرفت نفسها تدريجياً في السياسة رفضت الثورة الاجتماعية بمفهومها الرجعي والبحث عن حلول لعدد من مشاكل اليوم من خلال العودة إلى غابر الزمان.

والناصرية المحصورة بين اليمين واليسار والمقتصرة على خيارات مبنية على ما رفضته، كانت مضطرة لإيكال قيادة الحركة إلى “نخبة” بيروقراطية وعسكرية.كان ناصر يدرك نقاط ضعف هذه الطبقة. لذا بذل بعض الجهود من أجل ترفيع كادرات وافدة من الفئات الشعبية. ولكن تركيب النظام (الناصري) كان يتعارض مع نجاح هذه الجهود إذ لم يكن بوسع ناصر أن يغضب كثيراً الكادرات التي كانت في متناول يده في تلك اللحظة.وفي أفضل الحالات كان يسعى للتحضير للمستقبل.

عدا التحالفات الخارجية التي كان يجيد اللعب بها كالمايسترو، والتي كان مستعداً لتغييرها، فإن ناصر كان يتمسك في عدائه للإمبريالية بخيار راديكالي. على الأقل بدا هذا الخيار راديكالياً حتى آخر عهده. ولكن لنفسر قليلاً معنى كلمة الإمبريالية التي استخدمها بإفراط.

من الواضح أن تجربة ناصر جعلته حساساً للغاية إزاء تهديدات الإمبريالية الرأسمالية لاستقلال بلده. في حين كانت الإمبريالية الاشتراكية أدنى طموحاً. أقله حينذاك. بمعنى آخر كان بالإمكان ضبط مؤثرات هذه الإمبريالية الخاضعة تماما للسلطة السياسية والحد منها بل التخلص منها عموما عبر اللجوء إلى أعدائها. علما أن هذه الإمبريالية لم تكن شديدة الانشغال بتقدم العالم الثالث لكنها على الأقل لم تضع في دربه أية عقبات. بالمقابل كان الخضوع للإمبريالية الاقتصادية (الرأسمالية) أشد خطراً، ذلك انه ما أن تثبت آلياتها في مكان ما حتى يصعب السيطرة عليها ولو بواسطة السلطة السياسية التي ترتبط بها، فالآلية العمياء لحواجزها المختلفة ترمي إلى الحفاظ على التخلف والتبعية بل على مضاعفتها. عموماً تلك هي صورة انتظام الأشياء التي ارتسمت في قسم كبير من العالم الثالث حينذاك والتي لم تكن تعدم بعض المصداقية.

في الواقع كانت راديكالية الناصرية في نضالها ضد الإمبريالية محدودة ومع ذلك كانت تثير حماس العالم العربي وتنقل الحماس نفسه إلى شرائح وجماعات العالم الثالث المشابهة لتلك التي خلقتها في مصر. وفي هذا السياق جرى الحديث عن اتجاهات ناصرية في تركيا وفي أمريكا الجنوبية.لقد وصلت هذه الراديكالية إلى حد التحالف مع الاتحاد السوفييتي ضد الهيمنة الأمريكية والى حد إنشاء آليات وبنى اقتصادية تابعة للدولة للخلاص من التبعية التي كانت تشجعها الليبرالية على الصعيد العالمي.

كثيرون تمنوا الموت لجمال عبدالناصر: عملاء أمريكيون و”إسرائيليون” وكثيرون غيرهم ممن سيكشف عنهم التاريخ. وأنا متأكد أن البعض منهم لم يفهموا أن قتل عبدالناصر لا يعني قتل الناصرية.ذلك بأن عبدالناصر إن كان مكروها فلأنه يجسد أحلام شعبه.

وبخلاف الاعتقاد السائد فيما يخص النضال ضد “إسرائيل” لم يكن لدى أية حكومة عربية القدرة على تحاشي الصراع، ولم يفعل ناصر سوى الانخراط في التيار محاولاً في كل مرحلة فرملة نفاد الصبر وتحجيم التهور لدى العامة. لكن هل ماتت الناصرية نفسها أيضا مع ناصر؟ المستقبل وحده يحمل لنا الجواب. بالانتظار لعل “الرجعيين” سيندمون سريعاً على موت لطالما تمنوه لهذا الرجل. ولكن ماذا عن الثوريين؟ هل ستكون الثورة الراديكالية بديلهم الممكن للناصرية؟ هل العالم العربي ناضج للثورة الراديكالية؟ وهل تسمح القوى العظمى بقيامها في هذا العالم حيث الفعل ليس توأما للحلم”. هنا ينتهي كلام رودنسون الذي لم يوفق بتفسير موقف الرجعيين العرب من غياب ناصر وأصاب باستشراف فشل الثورة الماركسية بعد غيابه وهو ما وقع بالفعل رغم أن المستشرق كان ماركسياً في ذلك الحين ولعل التزامه الأيديولوجي يعكس موقفه من “الاخوان المسلمين” ومن أنظمة الحكم المبنية على أسس دينية مع التذكير بأنه أنجز سيرة ذاتية للرسول العربي هي من أفضل ما قرأت بقلم أجنبي. لكن ما قيمة الناصرية اليوم؟

ينطوي “فلسفة الثورة” كتاب عبدالناصر الأساسي على عناوين واختيارات سياسية عامة. إنه أشبه ب “البيان الشيوعي” لكارل ماركس وفردريك انجلس من دون الجهاز الايديولوجي المتكامل للماركسية وبالتالي يصعب أن تبنى عليه وحدة أممية عربية وإفريقية وإسلامية أو عالمية. في المقابل يتيح الكتاب، كما مواقف وسياسات جمال عبدالناصر المتصلة بالهوية والوحدة العربية والنضال ضد الاستعمار والحركة الصهيونية والدعوة للنظام العالمي العادل. كل ذلك يتيح انتماء عريضا لإرث عبدالناصر يتعدى الأطر الحزبية الى فئات واسعة من العرب بين المحيط والخليج. بهذا المعنى تشبه الناصرية في العالم العربي الديغولية في فرنسا والبوليفارية في أمريكا اللاتينية والأتاتوركية في تركيا والبيرونية في الأرجنتين والغاندية في الهند.. الخ.

لم تترهل العديد من الاختيارات السياسية الناصرية خصوصاً ما يتصل منها بالهوية والوحدة والسيطرة على الموارد العربية وبناء فضاء سياسي متضامن ومواجهة التسلط الدولي والحركة الصهيونية وثقافة الممانعة.. الخ.

هذه الاختيارات كانت وما زالت وستبقى صالحة ما يعني أن ما صنعه عبدالناصر ينطوي على قيمة تبادلية راسخة يصح معها القول إن العربي كان أو هو اليوم أو سيكون يوماً ما ناصرياً.
"الخليج"

التعليقات