31/10/2010 - 11:02

استعمار جديد../ محمد السعيد إدريس

استعمار جديد../ محمد السعيد إدريس

يبدو أن مفهوم “الشراكة الاستراتيجية” أضحى الاسم الرسمي للاستعمار الجديد الذي تمارسه الولايات المتحدة هذه الأيام ضمن عهدها الامبراطوري.. وأهم ما يرتكز عليه هذا المفهوم هو وجود “حكومة صديقة” في داخل البلد، هي أولاً مرفوضة من أصحابه، سواء لأنها فرضت من جانب الأمريكيين أو جاءت إلى الحكم بدعم مباشر منهم، وهي ثانياً معزولة داخلياً وليس لها ما يساعدها على البقاء في الحكم غير الأمريكيين. هذه “الحكومة الصديقة” وظيفتها الأساسية تمرير الاستعمار الأمريكي الجديد من خلال التوقيع على معاهدة أو اتفاقية “شراكة استراتيجية”، وعن طريق هذا التوقيع في مقدور الأمريكيين نفي أي صفة استعمارية لوجودهم العسكري ونفوذهم الاستثنائي داخل هذا البلد، على أساس أن الاستعمار يتم بشكل قسري ولكن وجودهم بات شرعياً من خلال اتفاقية “الشراكة الاستراتيجية”.

شهدت السنوات الماضية أنواعاً مختلفة من تلك الاتفاقيات الاستراتيجية الأمريكية مع كثير من الدول تباينت في ما بينها من حيث شكل الوجود الأمريكي ومن ناحية درجة النفوذ، لكن ما يجري فرضه على العراق هذه الأيام هو أكثرها فجوراً، فالاتفاقية التي تضغط إدارة الرئيس جورج بوش على الحكومة العراقية لتوقيعها قبل نهاية يوم 31 يوليو/ تموز المقبل هي محصلة أدوار أمريكية شديدة الخطورة تعرض لها العراق منذ منتصف عام ،1991 لكن الحسم حدث مع الغزو الأمريكي للعراق في مارس/ آذار 2003 واحتلاله بعد تدمير كل الهياكل الأساسية للدولة واسقاط النظام الحاكم وتنصيب الحلفاء من رموز المعارضة العراقية الذين وفدوا إلى العراق بصحبة القوات الأمريكية كحكام جدد للعراق، بعد اطلاق شرارة الحرب الأهلية لتدمير ما بقي من روابط المواطنة العراقية الموحدة عبر العديد من السياسات أبرزها فرض نظام المحاصصة السياسية، واطلاق يد جماعات المرتزقة للقتل والتدمير بين السنة والشيعة لفرض المواجهة الدامية بين الطرفين.

كل هذا كان يحدث والعراق يشهد أخطر عملية سرقة ونهب في التاريخ لم تكتف بسرقة الأموال من البنوك ونهب النفط بكميات هائلة ومتواصلة بل وسرقة التاريخ وتدمير الذاكرة الوطنية واغتيال كل رموز العلم والثقافة والوطنية في العراق، وأخيراً جاء وقت فرض الاستعمار الأمريكي المباشر بعد أن تهيأت كل الظروف لفرض هذا الاستعمار من خلال تلك الاتفاقية.

ما حدث وما يحدث للعراق هو تجربة فريدة من تجارب الاستعمار الجديد، فلم يحدث أن قامت الولايات المتحدة أو غيرها من الدول بهذا الدور منذ نهاية عهد الاستعمار التقليدي القديم، كانت تساعد على حدوث انقلابات ضد أنظمة حكم وطنية معادية للنفوذ الأمريكي وكانت تقوم باغتيال زعماء، لكن أن تقوم هي بغزو واحتلال بلد، ثم تضع اطاراً قانونياً يؤمن لها البقاء طويل المدى، فإن هذا يعد سابقة قد تكون مجرد بداية لعهد جديد من السياسة الأمريكية، خاصة إذا فاز في الانتخابات الأمريكية القادمة المرشح الجمهوري جون ماكين الذي يعتبرونه امتداداً لعهد جورج بوش، بل إن البعض يرى أن حكمه سيكون بمثابة ولاية ثالثة لجورج بوش.

فالاتفاقية الجديدة لها أبعادها الأمنية والسياسية والاقتصادية وهدفها تنظيم العلاقة الأمريكية مع العراق على أسس قانونية تكسب استمرار الاحتلال الشرعية اللازمة، وهي تركز على وجود قواعد عسكرية أمريكية شبه دائمة تتجمع فيها القوات الأمريكية الموجودة في العراق حالياً، فضلاً عن استمرار منح القوات الأمريكية وقوات المرتزقة في شركات الحماية، حصانة قضائية تحميهم من المساءلة القانونية وتمنع محاكمتهم أمام المحاكم العراقية. كما تفرض وضع الثروة النفطية العراقية تحت السيطرة الأمريكية من خلال إبرام اتفاقيات طويلة الأمد تعطي السيطرة لشركات نفط أمريكية على آبار العراق، وتصدير النفط العراقي لأمريكا بأسعار مجحفة، إضافة إلى مطالب أخرى لا تقل خطورة مثل منح القوات الأمريكية السيطرة على الأراضي والأجواء العراقية البرية والبحرية والجوية (الاحتفاظ بحق السيطرة على الأجواء العراقية حتى ارتفاع 29 ألف قدم) والقيام بأعمال عسكرية من دون إذن الحكومة العراقية بدعاوى مزيفة مثل محاربة الإرهاب.

وكوسيلة للضغط على الحكومة العراقية تحتجز الإدارة الأمريكية 50 مليار دولار من أموال العراق في البنك المركزي الأمريكي، كما يضغط الأمريكون على الحكومة العراقية بورقة مجلس الأمن والبند السابع الذي لايزال العراق خاضعاً لأحكامه منذ نهاية حرب تحرير الكويت عام 1991 عندما اتهم العراق بأنه يمثل تهديداً للأمن والاستقرار الدوليين. ويهدد الأمريكيون الحكومة العراقية بأن ثمن الإفلات من قيود هذا البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة هو التوقيع على معاهدة التحالف أو الشراكة الاستراتيجية.

الحكومة العراقية واقعة الآن بين نارين: نار الانكشاف الأمني والتعرض للمحاسبة من جانب قوات المقاومة في حالة انسحاب القوات الدولية كما هو مقرر في نهاية هذا العام وبين التوقيع على هذه المعاهدة المجحفة مقابل توفير الحماية الأمريكية وتأمين بقاء الحكومة والقوى السياسية المشاركة في الحكم.

والحل الذي تراه هذه الحكومة هو طمأنة واسترضاء بعض الأطراف المعارضة في الداخل من خلال تجميل بعض بنود هذه المعاهدة بتوافق مع الأمريكيين، والسعي لدى إيران لعقد صفقة مزدوجة من خلال التأكيد الفعلي على ألا تستخدم القوات الأمريكية الأراضي العراقية لضرب إيران، ومن خلال إغراء طهران بمعاهدة تحالف استراتيجي أو على الأقل تعاون استراتيجي تؤمن لإيران مصالحها في العراق.

الحل إذن هو استرضاء إيران واحتواء الرفض الإيراني للمعاهدة، وموازنة إيران بأمريكا كي يبقى وجود هذه الحكومة مصلحة للطرفين ويصبح العراق رهينة للأمريكيين والإيرانيين.
"الخليج"

التعليقات