31/10/2010 - 11:02

استقدام الجامعات الغربية إلى المنطقة العربية: لماذا؟/خالد الحروب

-

استقدام الجامعات الغربية إلى المنطقة العربية: لماذا؟/خالد الحروب
انتشر في السنوات الأخيرة تقليد، حتى لا نقول موضة, فتح فروع للجامعات الغربية العريقة والكبرى في بعض البلدان العربية. وهناك الآن عدد كبير من الجامعات الأميركية تحديداً، لكن أيضاً البريطانية والفرنسية والألمانية، أصبحت لها كليات تدريس في هذا البلد العربي أو ذاك. تم ويتم هذا بمبادرات من قبل البلد العربي المضيف، ومؤسسته التعليمية الرسمية، وفي غالب الأحيان بتشجيع من قبل المؤسسة الحاكمة، وكذلك من قبل القطاع الخاص للاستثمار في قطاع التعليم العالي. وغالباً ما تتردد الجامعات الغربية المشهورة وذات الخبرة والأسماء العريقة في قبول فكرة افتتاح فرع لها بعيداً عن مقرها الأصلي. لكن على رغم التردد الأولي فإن عددا لا يُستهان به من كبريات تلك الجامعات قبلت، لهذا الإغراء أو ذاك، الانخراط في هذا التقليد الجديد والخلافي والذي يستحق المناقشة.
يمكن أن نفترض، ابتداء، وجود منطلقين وراء فكرة استقدام الجامعات الغربية وبخاصة ذات الأسماء الكبيرة إلى البلدان العربية، أحدهما تفاخري تظاهري لا جدوى من نقاشه، والآخر حقيقي هدفه فعلاً رفع مستوى التعليم العالي في البلد المعني. ويمكن أن نفترض أيضاً وجود مجموعة من الأهداف التعليمية والتربوية (وغيرها) يُراد تحقيقها من خلال تأسيس فروع لجامعات غربية شهيرة وريادية في المنطقة العربية. اول هذه الأهداف رفع مستوى التعليم الجامعي في البلد العربي المضيف وتعميق نوعية التعليم عن طريق الاستفادة من الخبرات المتراكمة لمؤسسات وجامعات غربية عريقة. تستهدف هذه السياسة أيضا توفير فرص للدراسة الجامعية العليا للطلبة الذين لا يستطيعون أو لا يرغبون في استكمال دراساتهم العليا في الخارج لسبب أو لآخر. وهناك على وجه التحديد اهتمام بالطالبات اللواتي لا يسمح لهن أهلهن بالسفر للخارج، وهكذا فإن وجود جامعات غربية رفيعة المستوى وفي البلدان المعنية يسهل لاؤلئك الطالبات فرص تحقيق طموحاتهن. إضافة إلى ذلك فإن وجود فروع من جامعات غربية ناجحة ومتمرسة في حقول العلوم المختلفة من شأنه أن يؤثر ايجابياً وبشكل مباشر أو غير مباشر على الجامعات المحلية ويرفع من المستوى الإجمالي للتعليم الجامعي. كما قد يُساق هنا هدف توفير الموارد المالية التي تنفق على أجيال الطلبة المغتربين الذين يستكملون دراساتهم العليا في الخارج. فعوض أن تهدر هذه الموارد على هدف جزئي مقتطع بالإمكان إنفاقها في تأسيس بنية تعليمية تحتية دائمة لا توفر التعليم العالي للأجيال القادمة فحسب، بل تسهم أيضاً في رفع مستوى التعليم الجامعي على الأمد الطويل في البلد المعني. ربما يمكن إضافة أهداف أخرى هنا أو هناك، لكن بالإمكان الزعم أن هذه هي الأهداف الأهم التي يمكن تخيل وجودها في دوائر صنع القرار الخاصة بهذا الشأن. وهي على العموم أهداف تحمل وجاهة كثيرة وفيها منطق لا يمكن التقليل من اهميته.
لكن في الوقت نفسه لا يبدو أن وجاهة تلك الأهداف أو منطقها المهم يصلان إلى مستوى مقنع بجدوى هذا الاستقدام المستمر للجامعات الغربية، والتنافس الذي نراه الآن بين بلدان المنطقة على هذا الصعيد. فهناك تحفظات من العيار الثقيل تبدد «أحلام» كثير من تلك الأهداف ومنطقها. هناك أولاً أصل الفكرة وجوهرها التنظيري والذي يفترض أن «نسخ» جزء من تجربة مشروع ناجح غربي من دون خلق الظروف الموضوعية التي تسببت في نجاحه في بلده الأصلي مآله «نسخ» النجاح الأصلي أيضاً. النجاحات والتقاليد العريقة التي تمتاز بها الجامعات الغربية الكبرى مثل هارفارد وكامبردج وأكسفورد وييل وجورج تاون وكورنيل وكولومبيا والسوربون وغيرها، هي خلاصة قرون من التراكم العلمي والأكاديمي والسياسي والحرياتي. وهذا التراكم ولّد، وتولّد عن، ظروف موضوعية أتاحت لتلك التجارب أن تنمو أفقياً ورأسياً في أجواء ميزتها الأساسية ارتفاع سقف الحرية الأكاديمي والبحثي، إضافة إلى استقلالية هذه الجامعات وعدم خضوعها للنظام السياسي (على رغم تأثرها به ومساوماتها الجزئية في هذا الحين أو ذاك). على ذلك فإن ما يراه صُناع السياسة التربوية العرب من نجاح في هذه الجامعات هو النتيجة الراهنة لمقدمات موضوعية وزمنية طويلة. ويجب النظر إلى هذه التجربة نظرة متكاملة وليست جزئية، بمعنى لا يمكن ببساطة استقدام تجربتها الناجحة من دون أن يترافق ذلك مع توفير شروط موضوعية مشابهة للظروف التي ولدت ذلك النجاح. لا يمكن أن تنجح فروع تلك الجامعات في المنطقة العربية مجتمعة في إنتاج بحوث رصينة ومحترمة في معظم، إن لم يكن, كل حقول العلوم الإنسانية، من دون أن يتوفر شرط الحرية الأكاديمية والبحث العلمي. ففي معظم هذه الميادين يصطدم الباحث بالمحاذير والمحرمات السياسية والدينية والثقافية والاجتماعية، ولا يستطيع أن يبحث في الكثير من هذه الشؤون ناهيك عن أن ينشر نتائج ما يصل إليه.
الأمر الثاني المرتبط بالظروف الموضوعية التي قادت إلى النجاح الباهر للجامعات الغربية الكبرى هو أنها حلقة متناغمة الارتباط في سلسلة العملية التعليمية العضوية والمتراكمة، حيث تسبقها أنظمة تعليمية مدرسية أو كلياتية تقود الطالب، المبدع، خصوصاً، إلى مسارات تحقق إبداعه وتعزز مواهبه. لكن أن يتم استقدام الجامعات الأرقى في العالم لتقف على رأس أنظمة تعليمية ومدرسية بعيدة عن الرقي النوعي، إن لم نقل متخلفة، فإن ذلك لا يختلف عن إلباس الشخص المريض قبعة جميلة بهدف معالجة مرضه!
يمكن أيضاً التحفظ على مسألة استقدام هذه الجامعات العريقة إلى المنطقة العربية عوض إرسال الطلبة العرب إليها على أساس أن السفر إلى هذه الجامعات والعيش في بلدانها والانخراط في الحياة الجامعية فيها هو جزء لا يقل أهمية بأي حال من الأحوال عن الجزء الخاص بالتحصيل العلمي البحت. فالدراسة في هذه الجامعات لا تنحصر في «الكسب الأكاديمي» بل إنها تكمن في واقع الأمر في «التجربة» برمتها وبجوانبها المختلفة. على ذلك فإن «حرمان» المؤهلين أكاديمياً من الطلبة في البلدان العربية المعنية من الإنخراط في تلك التجربة عن طريق إدماجهم في الفروع المستحدثة في بلدانهم لا يحقق عملياً الشيء الكثير لخدمتهم. بل يمكن القول إن مواصلة الدراسة الجامعية محلياً لمن يستطيع مواصلتها خارجيا تحرم الطالب أو الطالبة من إضافة تجارب جديدة وارتياد آفاق لا يمكن اختبارها من دون الانخراط في «التجربة الجامعية بأوجهها المختلفة» وليس فقط «التحصيل الأكاديمي».
من ناحية أخرى هناك بالأساس تحفظات جدية على التوسع غير المدروس وغير المنطقي للتعليم الجامعي في المنطقة العربية لجهة ارتباط ذلك التوسع بهرم العمالة واحتياجات السوق. ففي كثير من البلدان العربية هناك فائض أصلاً من خريجي الجامعات وحملة الدرجات الجامعية الأولى والثانية والثالثة على حساب المهن الوسيطة والحرفية. وتحتاج فروع الجامعات الغربية المُستقدمة إلى المنطقة ومن يقف وراءها من صناع السياسة التربوية، او في القطاع الخاص، ان يقنعونا بأن التخصصات التي تقدمها هذه الفروع للطلبة والطالبات منسجمة مع المتطلبات الراهنة والمتسقبلية لهرم العمالة وفرص التوظيف.
وهناك تحفظ أيضاً على حقيقة المقايضة القائمة بين الجامعات الغربية التي وافقت على فتح فروع لها. فما صار معروفاً ولا يحتاج إلى جهد للإثبات أو المناقشة هو أن الإغراء الأكبر الذي لا تستطيع بعض الجامعات الغربية، على عراقتها، مقاومته هو المردود المادي الذي تتحصل عليه من فرعها، أو فروعها التي تفتحها في المنطقة. ففي مقابل استخدام إسم هذه الجامعة الكبيرة او تلك الى البلد المعني فإنها تتحصل على منح مالية ضخمة من الدولة المُستضيفة من ناحية، ومن الارتفاع الهائل في الرسوم الجامعية المفروضة على الطلبة. وهذه المقايضة (المالية) تضع كل المسألة الأكاديمية وحقيقتها ورصانة المشروعات التي تُنفق عليها مئات الملايين من الدولارات موضع شك عميق. علينا أن نضيف إلى ذلك أيضاً حقيقة رقمية يدركها القائمون على فروع الجامعات الغربية التي تعمل حالياً في المنطقة وهي أن أعداد الطلبة الملتحقين بهذه الجامعات قليل جداً مقارنة بالموارد المالية التي أنفقت عليها، والأبنية الضخمة والتجهيزات التي وفرت لها. لماذا يلتحق طالب عربي يريد أن يستكمل دراسته بالفرنسية أو الألمانية أو الانكليزية مثلاً بفرع جامعة فرنسية أو ألمانية أو أميركية في بلد عربي يفرض عليه رسوماً باهظة، ويفضل ذلك على الالتحاق بالجامعة الأم وفي بلدها الأصلي؟


* اكاديمي اردني فلسطيني - جامعة كامبردج



"الحياة"

التعليقات