31/10/2010 - 11:02

الإمبراطورية تنوء بغزواتها../ فيصل جلول

الإمبراطورية تنوء بغزواتها../ فيصل جلول
تقود متابعة سريعة للظروف التي أدت الى التصدع المالي الأمريكي نحو استراتيجية الحرب المفتوحة التي اعتمدتها إدارة الرئيس جورج بوش. إن التكلفة الباهظة للحرب على العراق ارهقت الاقتصاد الأمريكي مرتين. الأولى عبر الانفاق الخرافي من خزينة عاجزة أصلاً ومدينة حتى العنق، والثانية عبر غياب استراتيجية للخروج من الحرب واعتماد الغموض لأسباب تكتيكية، الأمر الذي وضع، ويضع الاقتصاد الأمريكي أمام معادلة صعبة، ذلك لأن الخوف المتصل بالحرب يبطئ الاستهلاك ويحمل الشركات على الانتظار وبالتالي فرملة الاستثمار ويلهب أسعار النفط.

لا يعاني الاقتصاد الأمريكي من حرب العراق حصراً، فهو أيضاً يعاني من حرب أفغانستان مرتين، الأولى لأن واشنطن وحلفاءها لا يملكون استراتيجية خروج واضحة من هذه الحرب الباهظة التكلفة والتي تلقي بأوزارها الاقتصادية على الحلفاء الأوروبيين، والثانية لأن مصير الحرب الأفغانية بات معلقاً على التطورات في القوقاز والنهوض الروسي.

وتعتبر “الحرب” المضمرة على إيران ثالثة الأثافي، ذلك لأن الغموض الذي أشاعته الإدارة الأمريكية حول نواياها الفعلية تجاه إيران، وافتقار واشنطن الى استراتيجية خروج من الأزمة الإيرانية، ناهيك عن ارتباط مصير حرب العراق بإيران، كل ذلك ادى الى زيادة الأثقال على الاقتصاد الأمريكي ووضعه على حافة الانهيار، ومعه بطبيعة الحال الاقتصاد العالمي برمته.

كانت حال الاقتصاد الأمريكي خلال السنوات الماضية أشبه بحال رياضي في ألعاب القوى مهيأ لرفع 200 كلغ، فيما يصر مدربه على أن يرفع 400 كلغ، فإن فعل فسينهار حتماً تحت أثقال لا قدرة له على حملها، وإن لم يفعل فسيستسلم ويفشل في المنافسة. وإذا كان الحل الوحيد لتجنب الفشل في الرياضة يكمن في التخلي عن المدرب وإعادة النظر في استراتيجية المنافسة، فإن الحل الوحيد أيضاً في السياسة هو التخلي عن الإدارة الفاشلة. ولعل الولايات المتحدة تبدو اليوم مهيأة تماماً للتغيير، وربما للسقوط في أحضان باراك أوباما الذي يعد مواطنيه بشيء آخر مختلف تماماً عما أتاه جورج بوش وفريقه خلال السنوات الثماني الماضية. ومع ذلك قد لا يتمكن المرشح الشاب من معالجة التصدع الكبير الذي يلوح في بنيان الامبراطورية الأمريكية في نهاية عهد بوش والذي يهدد بانهيارات مفاجئة قد لا يتوفر الوقت الكافي لاستدراكها.

ولمعاينة هذا التصدع من المفيد العودة قليلاً الى الوراء. في خطاب شهير القاه في 26 فبراير/ شباط عام 2003 أمام باحثي معهد “واشنطن انتربرايز” رسم جورج بوش صورة انتصارية للامبراطورية الأمريكية لا تشوبها شائبة، وحدد أهدافاً في الشرق الأوسط قال إن تحقيقها سيؤدي الى تغيير العالم واشترط احتلال العراق مدخلاً لهذا التغيير. وقال إن سقوط بغداد سيقود حتماً الى نهاية الصراع العربي - “الاسرائيلي” والى نشوء دولة فلسطينية. واليوم لا دولة فلسطينية ولا من يحزنون. وقال إن العالم العربي سيتغير من المغرب الى البحرين، والتغيير الوحيد الذي تم هو زيادة نفوذ المناهضين لواشنطن وتراجع أسهم الذين روجوا لمشروع الشرق الأوسط الكبير. وقال إن سقوط صدام حسين سيجعل العراق مثالاً للحرية والديمقراطية وبلداً جاذباً للتطور والتقدم على غرار ألمانيا واليابان، وها نحن نرى اليوم عراقاً خرباً على كل صعيد ومثالاً يجدر الابتعاد عنه.

أما “اسرائيل” الموعودة بالسيادة على الشرق الأوسط فقد خسرت عام 2006 الحرب الأولى في تاريخها، وها هو رئيس وزرائها المستقيل يتحدث مذعوراً لمواطنيه عن ان الدولة العبرية ستندم على كل يوم يمر من دون أن توقع السلام مع جيرانها.

لم يتحدث بوش في ذلك الخطاب عن التعاون مع روسيا، بيد أن سياسته الهجومية في البلقان والقوقاز وعلى ضفاف بحر قزوين أفضت الى خروج الدب الروسي من عقاله والرد بقوة في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، الأمر الذي حمل أوكرانيا على إعادة النظر في سياستها الخارجية ومولدافيا على توخي الحذر، والبقية ستأتي عاجلاً أم آجلاً.

قد لا تبرر المؤشرات السابقة الاستنتاج المتسرع بانهيار الامبراطورية الأمريكية، لكنها تكفي للحديث عن تصدعات خطيرة في جسدها، ولعل الأقربين منها يرون هذه التصدعات أكثر من الأبعدين. هكذا نرى رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي يشرب حليب السباع ويجرؤ على رفض اتفاق أمني مع “المحتل الأمريكي” ويردع الأكراد في قضية خانقين.

ونرى الرئيس الباكستاني الجديد آصف على زرداري يرفض أن يشن الحلف الأطلسي غارات على قبائل الباشتون الباكستانية من دون إذن الحكومة، ويسترضي تلك القبائل بوعود خدماتية في حين يستخدم نيكولا ساركوزي لغة تصالحية مع عمر البشير في ملف دارفور، ويزور بشار الأسد في دمشق ويعوّل على دوره في حل مشكلة النووي الإيراني، وترعى تركيا بخلاف رغبة واشنطن مفاوضات سورية - “اسرائيلية” حول الجولان... الخ.

في كتاب شهير صدر عشية حرب العراق استنتج الباحث الديموغرافي الفرنسي إيمانويل تود، أن الولايات المتحدة صارت عبئاً على النظام العالمي، بعد أن خسرت موقعها الاقتصادي المهيمن في التنافس مع “أوراسيا”، حيث يستقر الإنتاج الأكبر والأهم في العالم، وتوقع أن يتصدع الاقتصاد الأمريكي جراء حرب العراق. حينذاك راهن جاك شيراك على استنتاجات مواطنه وعارض الحرب وطالب بتعددية القوى على الصعيد الدولي. بيد أنه لم يصمد طويلاً في معارضته، فخسر رهاناً تاريخياً وهو الديغولي، ولعله اليوم “يأكل أصابعه ندماً”.
"الخليج"

التعليقات