31/10/2010 - 11:02

الانتخابات واستعادة كرامة وطن: التجربة البريطانية../ جميل مطر

الانتخابات واستعادة كرامة وطن: التجربة البريطانية../ جميل مطر

تابعت بفضول حملة الانتخابات البريطانية، وأنتظر مساء اليوم نتائجها بفضول أشد. أعرف أنني لست المصري الوحيد “المشتاق” إلى حملة انتخابية تتصادم فيها الآراء والعقائد، فبمثل هذه الصدمات يزداد الشعب فهماً لمشكلاته وتفهماً لبدائل حلها.

“مشتاق” أيضا لحملة انتخابية أتعرف من خلالها إلى المرشحين، وأقرر بنفسي إن كان بينهم من يستحق شرف أن يخدم مصالحنا، ويرعى حرمة الأمة ويستعيد لها كرامتها أو جزءاً منها. أما النتائج، فأستطيع أن أعترف بعد أسابيع عديدة من متابعة الحملة الانتخابية في بريطانيا، بأنني وجدت صعوبة كبيرة في التنبؤ بها، أعترف بأن ظني، حتى لحظة كتابة هذه السطور، مازال يتراوح بين فوز للمحافظين، وفوز معتدل للعمال، ومفاجأة فوز للديموقراطيين الليبراليين. هكذا ينشأ “الاشتياق” إلى حالة متحضرة في السياسة والحكم لدى إنسان محروم منها.

كانت الحملة الانتخابية في بريطانيا، إضافة إلى خصوبة أجوائها والإثارة التي ولدتها في الشارع البريطاني، كاشفة لحال الأمة البريطانية. كانت مثل تقرير دوري تقدمه الطبقة الحاكمة عن الطيب والسيئ فيما قدمته للشعب، وكانت مثل بيان للأمة تتعهد فيه هذه الطبقة بالتزامات تصحح بها أخطاءها، وتصلح أوجه قصورها، وتستعيد للأمة ما فقدته من عز وعزة لأسباب خارجة عن إرادة الحكام أو بإرادتهم وسوء تصرفهم.

كانت الحملة فرصة أتاحت للناخبين أن يعرفوا عن كثب حالة الاقتصاد والمجتمع والجريمة والفساد، وأن يعرفوا ويعترفوا بأن بريطانيا متعددة الألوان والعقائد والأجناس غير بريطانيا ذات اللون الواحد. ولكنهم عرفوا أيضا أن الطبقة التي حكمت عبر عقود، بل قرون، ما زالت قائمة وقوية وتحكم ولكن لا تتحكم. فالثلاثة المتنافسون على منصب رئيس الوزراء، أعلى سلطة تنفيذية في المملكة المتحدة، من خريجي مدارس وجامعات الطبقة العليا، وواحد فيهم على الأقل سليل عائلة ألمانية من العائلات المالكة، وجميعهم من دون استثناء ملتزمون حقوق الطبقة العاملة ومصالحها، ويتنافسون على الالتزام بمبادئ الرفاه الاجتماعية ونظمها.

على الرغم من هيمنة الأرقام على خطاب الحملة الانتخابية وأهمية المسائل الداخلية، وبخاصة ما يتعلق منها بالأحوال الاجتماعية والاقتصادية، كان “الحاضر الغائب” في الخطاب منذ اليوم الأول للحملة الانتخابية هو انحسار مكانة بريطانيا الدولية وسبل إيقافه. كان هذا الموضوع غائباً بمعنى أن المرشحين الثلاثة الكبار ومختلف المرشحين لمقاعد مجلس العموم في المدن الصغيرة وأحياء لندن الكبرى، تجنبوا الخوض فيه إمّا لحساسيته الشديدة بسبب اقترابه من مسألة القتلى البريطانيين في الحرب الدائرة في أفغانستان، وإمّا بسبب تعقيداته، وكان حاضراً في الوقت نفسه، لأنه كالشبح الذي خيم على أجواء الحملة الانتخابية منذ يومها الأول.

كان حاضراً في ذهن المتحدث عن العجز في الميزانية وتقليص الإنفاق الحكومي، وآثار الأزمة المالية في اليونان، والضائقة التي تتعرض لها العملة الأوروبية، وخطر ما يسمى بالإرهاب. وكان حاضراً لأن المراقبين من الخارج، وأنا واحد منهم، يهتمون به ضمن اهتمامهم الأوسع بالتطورات الجارية على مستوى القمة الدولية بشكل عام، أو لأنهم، وأنا منهم كذلك، منشغلون بالآثار الجانبية المترتبة على انحسار مكانة الدولة، سواء كانت بريطانيا أو روسيا أو مصر أو اليابان على سبيل المثال، وبعض هذه الآثار فادح اجتماعياً وأخلاقياً وسلوكياً.

ولا أبالغ إن قلت إنّ من بين الآثار الفادحة لتدهور المكانة الدولية التواضع المتدرج لذكاء وقدرات أجهزة صنع السياسة والقرار، وإصابة القائمين عليها بضباب في البصر والبصيرة، وميلهم المتزايد إلى إثارة نعرات “التعصب الوطني” لتغطية الانكسار والتعمية عن الأسباب الحقيقية للفشل. هذه السياسات وغيرها من سلوكيات دول فقدت مكانتها، اخترت أن أطلق عليها “سياسات الانكسار وسلوكياته”.

لم ينطق مرشح واحد من المرشحين الثلاثة بعبارة “تدهور المكانة”، بينما اجتمعوا على النطق بعبارة “استعادة المكانة”. لم تكن غائبة عن أجواء المناقشات الأكاديمية المصاحبة للانتخابات ثلاثة تطورات مهمة، أولها أن العلاقة البريطانية مع الولايات المتحدة لم تعد علاقة خاصة كالعهد بها في ولاية توني بلير ومن قبله مارجريت تاتشر، وكانت في الأصل من غرس ونستون تشرشل في سنوات الحرب العالمية الثانية حين كان يستدرج الولايات المتحدة بعيداً عن أجواء الانعزالية إلى أجواء الصراعات الأوروبية . . ثاني التطورات، أن أوروبا، كفكرة ثم كيان سياسي متميز، تمر في مرحلة ضعف، على الأقل كما تبدو للأمريكيين من جهة، وللآسيويين من جهة ثانية، ولمجموعة بريك BRIC، أي مجموعة الدول الناهضة وروسيا، من جهة ثالثة.

أما التطور الثالث فيمثله الصعود المتنامي لهذه المجموعة من الدول الناهضة، أي البرازيل والصين والهند وإلى حد ما روسيا. اجتمعت هذه التطورات، مع تطورات سياسية واقتصادية وعسكرية أخرى، لتضيف إلى سياسات “استعادة المكانة” تعقيدات جديدة، وتزيد الشكوك في إمكانية تغلب حكام بريطانيا على هذه الحالة المثيرة للاكتئاب النفسي لدى البريطانيين عموماً.

في هذا الشأن يقول روبرت نيبلت Robert Niblett مدير “مؤسسة شاتام هاوس”، إنه قرر تشكيل مجموعة من الأكاديميين وقدامى الممارسين للسياسة الخارجية تكون وظيفتها “تقويم السياسة الخارجية لبريطانيا”، وقال إن الدراسات الاستطلاعية التي قامت بها المجموعة تثبت أن التطورات الداخلية والخارجية المتلاحقة سوف تؤثر قطعاً في أمن بريطانيا ورخائها . وهذه التطورات هي:

1- التحول في مراكز الثقل من الغرب في اتجاه الشرق فيما أصبح يشكل ما يشبه دورة جديدة من دورات التاريخ والتوازن العالمي.

2- ضعف الإنفاق البريطاني على شؤون الدفاع والدبلوماسية بكافة فروعها، وهو تطور أصبح ضرورة حتمية.

3- علاقة أقل وثوقاً وأشد غموضاً وتحوطاً بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.

4- استمرار عدم التأكد بالنسبة لحال الاتحاد الأوروبي ومستقبله ونفوذه الدولي وإمكاناته الكلية، مقارنة بإمكانيات أخرى في دول صاعدة.

لمست بين بعض صانعي الرأي في الغرب أن بريطانيا الآن “قوة دولية متناقصة القوة” أو “قوة دولية انكمشت”. يقول أحدهم إن الجغرافيا والتاريخ والتجارة والاستثمارات والثقافة كلها ستستمر تفرض على طبقة الحكم في بريطانيا أن تكون عالمية في نظرتها إلى دورها ومصالحها، ولكن بنفوذ أقل ومتناقص. لذلك لا يتوقع أن ينساق الحكام البريطانيون وراء دعاة الانسحاب من العضوية الدائمة في مجلس الأمن، أو التخلي عن الرادع النووي، فالانسحاب المفاجئ من الدور الدولي والإقليمي قد يتسبب في سقوط مروع لثقة الإنسان البريطاني في كرامته ودولته، وفي نفسه أيضاً.

أقصى ما يمكن أن يفعله حكام بريطانيا في السنوات القليلة المقبلة هو التخلي عن سياسات الادعاء بلعب دور دولي كبير، بمعنى آخر تفادي اتخاذ قرارات من شأنها دفع بريطانيا إلى الالتزام بسياسات تعجز إمكاناتها ومكانتها الحالية عن الوفاء بها.

كانت بريطانيا ولاتزال، وربما بحكم موقعها وتاريخها، نموذجاً لأمم أخرى في عديد من الأمور . كثيرون ينصحون القادة الأمريكيين بقراءة تاريخ الإمبراطورية البريطانية، وبخاصة لحظات انحسارها. وأظن أن واجبنا كمصريين أن نقرأ هذا التاريخ وإن تحت عنوان مختلف.

أذكر أن دين آتشيسون وزير خارجية أمريكا، وقد بدا واضحاً له ومؤكداً أن الإمبراطورية البريطانية تدخل مرحلة الانحسار، قال “لقد فقدت بريطانيا إمبراطوريتها وعليها أن تبحث عن دور”. أراد أن يقول إن الدولة الإمبراطورية ليس لها دور محدد باعتبار أن هيمنتها مطلقة، ولعلها تتعالى على أن يكون لها دور . ولكن عندما تنحسر الإمبراطورية تبدأ الدولة التي كانت مركزاً لهذه الإمبراطورية في البحث عن دور يتناسب مع كونها دولة كباقي الدول ومع إمكاناتها المحدودة نسبياً.

وكان هارولد ويلسون، أول رئيس وزارة يشهد غروب الشمس عن الإمبراطورية البريطانية، قديراً في إدارته عملية انتقال بريطانيا من إمبراطورية إلى دولة لها دور بأقل تكلفة إنسانية، ومن دون اللجوء إلى إثارة نعرات تعصب قومي أو عنصري ضد بقية شعوب الإمبراطورية التي حصلت على استقلالها.

وحسب ظن بعض الخبراء يبدو أن الرجل الذي سيحكم بريطانيا بعد فوزه في الانتخابات التي تجرى اليوم، سيتعين عليه أن يكون على مستوى هارولد ويلسون عندما يواجه مشكلة وضع منظومة جديدة للسياسة الخارجية البريطانية تراعي ظروف “المرحلة الثانية في انحسار المكانة البريطانية”.

ولا تخلو الساحة الأكاديمية وساحات الرأي من اقتراحات واجتهادات، جاء في إحداها أن “القوة النسبية لبريطانيا ستتراجع بالتأكيد، على رغم أنه ليس بالضرورة أن يتبع هذا التراجع تراجع جديد في مكانتها”. وتوصل آخرون في أكسفورد إلى أنه من الممكن “تضخيم” المكانة بإقامة تحالفات عديدة مع دول ومجموعات متباينة، وباستخدام الدبلوماسية الذكية، ويقصدون بها الاستخدام الأمثل للقوة الناعمة، ومنها “النموذج البريطاني في الحكم”، ومن الضروري أن توجد بريطانيا في كل مكان تستطيع الوصول إليه بأقل تكلفة ممكنة، فتبقى في مجلس الأمن، وتحافظ على علاقتها بأمريكا، وتنشط داخل الاتحاد الأوروبي وفي الكومونولث، وتمارس وساطة في إفريقيا والشرق الأوسط، بشرط أن يكون مفهوماً لكل القوى الخارجية أن “جيش بريطانيا موجود للمساعدة فقط”.

بمعنى آخر، يرفضون أن يكون دور بريطانيا الدولي “سلبياً”، كالدور الدولي لألمانيا، وهو الدور الذي أعلن ميليباند وزير الخارجية أن بريطانيا ترفض القيام به، بينما يقول كاميرون مرشح حزب المحافظين إنه قد يكون من مصلحة بريطانيا فك بعض الارتباط بالاتحاد الأوروبي واستعادة بعض الحقوق التي انتزعتها بروكسل “المفوضية الأوروبية”، ولا ينكر في الوقت نفسه أن السياسات التي تركز على دور بريطانيا في تحالف أطلسي واسع “كانت تقوم على وهم كبير”، وهو أن لبريطانيا نفوذاً قوياً في أوروبا . انكشف الوهم وظهرت حقيقة قوة بريطانيا وسقطت العلاقة التي كانت تربط أمريكا ببريطانيا.

بقي على السياسيين أن يجعلوا انحسار مكانة بريطانيا أقل صعوبة على نفس المواطن البريطاني، ويعوضوه عنها ببرامج رفاه أكثر تطوراً، وعدالة اجتماعية أكثر تقدماً .
"الخليج"

التعليقات