31/10/2010 - 11:02

التاريخ يليق بالجديرين به../ فيصل جلول

التاريخ يليق بالجديرين به../ فيصل جلول
أثار غضب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في مواجهة شيمون بيريز في “منتدى دافوس” الأسبوع الماضي حماسة منقطعة النظير في العالم العربي وذلك إلى حد اعتقاد إحدى الصحف التركية أن ما فعله يذكر الرأي العام العربي بمواقف الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.

والراجح أن الزعيم التركي ما كان يريد الذهاب الى هذا الحد في المقارنة، فهو يدرك أن بلاده تقيم علاقات أساسية مع “اسرائيل”، وأن الجنرالات الاتراك الذي يتمتعون بوزن حاسم في تركيا لا يريدون لرئيس وزرائهم لعب هذا الدور الذي يعني في ما يعنيه السير في اتجاه يفضي عاجلاً أم آجلاً إلى قطيعة مع الدولة العبرية ليست في مصلحة الطرفين، بحسب تصريحات صادرة في انقرة وتل أبيب معاً.

واذا كان تعطش الرأي العربي مفهوماً لمثل هذه الغضبة التي جاءت من موقع غير معروف بمثل هذه المواقف ولم يصدر عنه من قبل ما ينبئ بها، وإذا كان صوت أردوغان المرتفع ضد الكيان الصهيوني قد تردد لأكثر من ثلاث مرات خلال حرب غزة ناهيك عن مقاطعة الرئيس عبدالله جول لحفل العشاء الاوروبي مع ايهود اولمرت عشية وقف النار “الإسرائيلي” من جانب واحد، إذا كان ذلك كله مفاجئاً للوهلة الأولى، فإن “العجب” قد ينحسر إذا ما عرف “السبب”، ومع انحساره قد يتضح أن الرأي العام العربي أسقط مشاعره الحارة على أردوغان في غمرة الحماسة والانفعال والاشمئزاز والسخط ازاء المواقف العربية التي لم ترتق إلى مستوى جرائم الإبادة التي ارتكبها “الكيان” في القطاع الفلسطيني المحاصر من جميع معابره.

ما من شك أن أردوغان تصرف كالمايسترو الماهر في هذه القضية، لأنه يعرف عن كثب حقيقة ما يدور في بلاد العرب، ولأنه يدرك أن دور الوسيط المرشح أن تلعبه بلاده في القضية الأهم في الشرق الأوسط يستدعي تعاطفاً من النوع الذي شهدنا مظاهره.

ثمة من يقول إن أردوغان ما كان مجبراً على التعبير عن موقف بلاده في هذه القضية باللغة السياسية الغاضبة التي استخدمها، إذ كان بوسعه النطق بما قاله بلغة دبلوماسية تؤدي الغرض، بل تجنبه سوء التفاهم مع جنرالات الجيش في بلاده ومع الكيان الصهيوني في آن واحد. ما يعني أن دوافع أخرى حملته على الخطابة الحادة ضد الحرب الهمجية على غزة، ولربما أمكن حصر هذه الدوافع في الخطوط التالية:

أولاً: شعر أردوغان بأنه تعرض لخدعة كبيرة من طرف ايهود أولمرت الذي ذهب إلى تركيا قبل أيام من شن الحرب على غزة في محاولة مكشوفة للتغطية على ساعة الصفر، وبالتالي استخدام عنصر المفاجأة في ضرب المقاومة الفلسطينية وقياداتها. ولعل الخداع “الإسرائيلي” لتركيا لم يكن الأول من نوعه، فالشائع ان قصف الموقع السوري في دير الزور تم من الأراضي التركية وبعد مداولات تركية “اسرائيلية”، وسورية تركية حول الجولان عشية الغارة على الموقع المذكور.

ولم يتردد الزعيم التركي بالتعبير عن إحساسه بالإهانة تجاه هذا النوع من المناورات الرخيصة، فقد أكد في تصريح علني ان الرعاية التركية للمفاوضات السورية “الإسرائيلية” كانت قاب قوسين أو أدنى من الختام، “لأن الأمر كان يحتاج فقط الى بضع كلمات، فإذا بأولمرت يشن الحرب”، على حد تعبيره.

ثانياً: تعرض أردوغان لمعاملة مهينة على أحد الحواجز “الإسرائيلية” في الضفة الغربية، حيث أوقف موكبه لأكثر من نصف ساعة خلال زيارة مبرمجة قبل الحرب إلى مقر المقاطعة في رام الله، وقد أشار الى هذه الواقعة في كلمته الشهيرة أمام البرلمان التركي.

ثالثاً: من غير المستبعد أن يكون أردوغان قد أصيب بجرح شخصي إزاء الاستخفاف “الإسرائيلي” بموقعه كرئيس للحكومة التركية تماماً كما شعر الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك خلال زيارته الشهيرة للقدس ومن غير المستبعد ان يكون غضب أردوغان من نفس طينة غضب شيراك العلني ضد الاستخفاف “الإسرائيلي”.

رابعاً: الراجح ان غضبة أردوغان مرتبطة جزئياً بحسابات انتخابية خصوصاً انها جاءت مغلفة بلهجة قومية افتخارية ولعل هذا مايفسر مخاطبته بيريز بالقول “أنت لا تتحدث إلى زعيم قبيلة. صحيح إنني رئيس حزب لكنني رئيساً للحكومة التركية”، وأضاف في تصريح لاحق أنه لا يقبل بأن تهان بلاده بهذه الطريقة، وإن كان ذلك قد حصل من قبل فهو “لن يحصل بعد اليوم”. والواضح ان اللغة القومية التركية التي ميزت كلامه من شأنها ليس فقط أن تعزز موقع حزبه الانتخابي وإنما أيضا يمكن أن تكبل ردود فعل الجيش والمعارضة العلمانية وهو ما وقع بالفعل.

خامساً: لقد وفر منتدى دافوس فرصة ذهبية لأردوغان لإطلاق غضبه، فهو جاء بعد وقف النار وفي ظل عزلة صهيونية واضحة، وإدانة أخلاقية عالمية الطابع لم تتعرض “اسرائيل” لمثلها من قبل. وقد ساعده أداء شيمون بيريز الركيك فضلاً عن غطرسته ووقاحته.

وفي ذلك مصداق للقول إن المواقف التاريخية تليق بالرجال التاريخيين حصراً.
"الخليج"

التعليقات