31/10/2010 - 11:02

التمثيل الفلسطيني بين الداخلي والخارجي../ علي جرادات

التمثيل الفلسطيني بين الداخلي والخارجي../ علي جرادات
إن كان ما يجري مِن تنازع فلسطيني داخلي على شرعية السلطة الوطنية نصف مصيبة، فإن تعميقه الى تنازع على شرعية التمثيل هو المصيبة بعينها، ذلك أن الشعب المراد تمثيله أصلاً، وبصرف النظر عن واجهته الحزبية، مستهدف، ما يفرض ضرورة وعي خصوصية قضية التمثيل الفلسطيني الشائكة والمعقدة، وإدراك خصوصية معنى التنافس الداخلي على هذا التمثيل، الذي إن "طاش" الساعون لكسبه حدَّ نسيان أو تناسي أن الشعب الفلسطيني ما زال يعيش مرحلة تحرر وطني، فإنهم لن يكونوا أكثر مِن هواة يصبون، (سيان بوعي أو مِن دونه)، الحب في طاحونة رفض الاعتراف بالفلسطينيين كشعب له الحق الحر والمستقل والسيادي في تقرير المصير، وهو الحق الذي لا يمكن أن يتجسد على الأرض، ويغدو حقيقة واقعة، مِن دون توفر شرطين أساسيين للتمثيل الفلسطيني، هما، وإن خالهما البعض منفصلين، فإنها مترابطان: شرط حيازة الممثل الفلسطيني على الاجماع الداخلي، وشرط تأكد الخارجي أنه يحظى بهذا الإجماع.

وبالتالي، فإن إنقساماً فلسطينياً داخليأ يصل حدَّ التنازع على شرعية تمثيل الشعب، لن يقود فقط الى فقدان طرفي التنازع لشرط التمثيل الداخلي، بل سيقود أيضاً، وبصورة تلقائية الى فقدانهما لشرط التمثيل الخارجي. وهذا ما سيقود بالنتيجة، الى إعادة طرح قضية تمثيل الشعب الفلسطيني للجدل والنقاش مِن جديد، وفي ظروف أشد مجافاة بالمعنيين القومي والدولي، مِن تلك الظروف التي أعقبت انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، وإمساكها بمقود منظمة التحرير الفلسطينية، الإطار الذي تشكل كردٍ سياسي قومي عربي، بمبادرة مصرية "ناصرية"، على نتائج النكبة السياسية الإلغائية للشعب الفلسطيني.

لموضوعة شرعية التمثيل الفلسطيني خصوصية فريدة؛ وبين الشرطين الداخلي والخارجي لكسبها علاقة معقدة، يشكل القفز عنهما انتحاراً وطنياً. وفي واقع استثمار تل أبيب وواشنطن وأطراف دولية وإقليمية للإنقسام الفلسطيني القائم عبرة، جوهرها أنه لن يكون لتمثيل طرف فلسطيني للشعب الفلسطيني قبولاً خارجياً ذي معنى دون تسلحه بدعم واجماع داخلي.

ومنذ البدايات كان التنازع الفلسطيني الداخلي على شرعية السلطة الوطنية الفلسطينية، وخاصة بعد الفصل بين جناحيها في الضفة وغزة، بعد الحسم العسكري "الحمساوي" للسلطة في غزة، ينذر بتفاقم هذا التنازع، وبلوغه كارثة التنازع على شرعية تمثيل الشعب الفلسطيني، الذي سيوظفه الإسرائيليون بدعم أمريكي، في عملية مواصلة رفضِ الإعتراف بالفلسطينيين كشعب، وفي عملية مواصلة التعامل معهم كمجموعات سكانية، في أحسن الأحوال، تنهي قضيتها صيغة "الحكم الذاتي"، التي عادة ما تعطى للأقليات التي تعيش في كنف وتحت سيادة دول مركزية، أي مواصلة التعامل مع الشعب الفلسطيني بعقلية الإلغاء والطمس والتوطين والتقسيم، انتهجها الإسرائيليون منذ "النكبة" وحتى اليوم.

ويفاقم الإنقسام الفلسطيني الداخلي الذي يرتقي بالتدريج الى تنازع على التمثيل، ويزيد طينه بلة، أن أياً مِن طرفي التنازع لا يقوى على الحسم الشعبي في المدى المنظور، ما دام بمقدور كل منهما حشْدَ كتلة شعبية واسعة خلفه، وما دام خيار الحسم السياسي الديموقراطي السلمي، أعني اعادة الاحتكام لصندوق الاقتراع، غير وارد حتى الآن، بدليل تعزيز الفصل السياسي والجغرافي بإجراءات قانونية وإدارية وأمنية، حتى تكاد تكون الضفة وغزة تعيشان في ظل "سلطتين" سياسييتين وقضائيتين وتشريعيتين منفصلتين، والأنكى أن "السلطتين" تعيشان تحت الاحتلال، ولا تملك أي منهما سلطة فعلية خارج ما أعطاه الشق الانتقالي لاتفاق أوسلو مِن صلاحيات، عاد شارون ولحسها عبر خطوتي اجتياح الضفة وفك الإرتباط الأحادي مع غزة، بل وعلق السلطة الفلسطينية في الهواء، وجعلها في وضعية المطلقة، على قاعدة "لا أطيق التعامل معك ولا أستطيع الصبر على فراقك"، بما يشي بنوايا مبيتة لجعل مصيرها مفتوحا، ولكن في كل الأحوال، إنطلاقاً مِن رفض الإقرار بحق تقرير المصير الحر والمستقل والسيادي للشعب الفلسطيني، الذي، وفي هذه الظروف بالذات، تجري عملية دحرجة كرة ثلج التنازع على تمثيله، ما يهدد إطار تمثيله المعترف به على كافة الصعد، منظمة التحرير الفلسطينية، التي بعجر وبجر راهنها، لا يمكن تشبيه مساهمة فلسطينية في هز شرعيتها، بصرف النظر عن مصدر هذا الهز ونواياه، إلا كمن يترك بيتا بحاجة الى اصلاح ليسكن العراء.

قد يجادل البعض في هذا الاستخلاص، ويرى فيه شيئاً مِن التضخيم والمبالغة، لكن ما يغيب عن بال هذا البعض، هو تذكُّر حقيقة تاريخية، كان الفلسطينيون قد عاشوها على مدار عقدين مِن الطمس والإلحاق، إمتدا مِن النكبة عام 1948 وحتى اندلاع الثورة الفلسطينية المعاصرة عشية وبعد هزيمة العام 1967، بل أكثر مِن ذلك، فإنه، يفوت هذا البعض، أنه، وبرغم جسامة تضحيات قرنٍ مِن النضال الوطني الفلسطيني، فإن رفض الإسرائيليين التعامل مع الفلسطينيين كشعب ما زال قائماً، كما وينسى هذا البعض حقيقة أنه لا يوجد لدى الإسرائيليين مشكلة في اصباغ العروبة أو الأسلمة على فلسطينيي 1948. فاسرائيل ترفض تسميتهم بـ"فلسطينيي اسرائيل"، بينما تقبل تسميتهم بـ"عرب إسرائيل" او "مسلمي اسرائيل".

أجل؛ إن أي دفع للإنقسام الفلسطيني الداخلي، وما خلقه مِن تنازع على السلطة الوطنية، الى جنون التنازع على التمثيل، دون ادراكٍ للمخاطر الاستراتيجية لهذه اللعبة، التي، شاء اللاعبون الفلسطينيون أم أبوا، ستقود القضية الوطنية الى درك جهنم الإسرائيلي، الذي طالما حلمت مخططاته الاستراتيجية، بالفصل بين كينونة الشعب الفلسطيني الموضوعية، ووحدة تمثيله السياسي، ككيان معنوي، وحافظ نضالي لهذه الكينونة مِن مخططات الطمس والإلغاء والتذويب والالحاق والتقسيم، وهي العناوين التي علينا أن لا نستغرب احيائها مِن جديد كمشاريع سياسية على جدول أعمال الأجندة الإسرائيلية بدعم مِن واشنطن، القوة المسيطرة بتفرد على السياسة الدولية ومؤسساتها، مع العلم أنه ليس نادراً أن خضعت دول اقليمية، ومنها عربية، لمشيئة هذه القوة الباغية ومشاريعها الكونية، وبضمنها تلك المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط، وإلا ما معنى ما جرى ويجري مِن "غرشٍ" عن سياساتها في ليبيا والسودان والعراق؟!!!

علينا أن لا نستبعد امكانية فرض التصورات الأمريكية الإسرائيلية، حتى على أولئك الذين لا يريدونها. ولو كان الأمر على غير هذا النحو، لكان اللبنانيون تخلصوا مما هم فيه مِن أزمة داخلية، تنذر تداعياتها، ببلوغ كارثة الدخول ثانية في أتون الحرب الأهلية.

خلاصة القول، فإن فوز طرف فلسطني بشرعية التمثيل على الصعيد الخارجي، هو أمر غير ممكن دون شرط الاجماع الداخلي. وفي اطار محاولة تلمس أهمية واستراتيجية هذا الشرط على شرعية التمثيل الفلسطيني ومصيره، يجدر التذكير بحكمة كان قد نطق بها مرة داهية العرب، معاوية بن أبي سفيان، يوم جاءه الأحنف بن قيس، سيد بني تميم في البصرة، وأحد أعمدة العلويين، الذي توفي عام 72 هجري (691 ميلادي):

يومها قال الأحنف لمعاوية: "والله يا معاوية إن السيوف التي حاربناك بها لفي أغمادها، فإن تدنُ مِن الحرب شبراً، ندنُ منها ذراعاً، وإن تمشِ لها نهرول لها. فردَّ معاوية بالقول: "يا أحنف، والله إن السيوف التي حاربناكم بها قد تخلينا عنها، فإن تدنوا مِن الحرب شبراً، نبتعد عنها ذراعاً، وإن تمشوا لها سنهرول عنها". ولما سمعه أحد معاونيه بعد انتهاء اللقاء، سأل مستغرباً: "يا أمير المؤمنين، مَن هذا الذي تخضع له في القول"؟!!! فقال معاوية: "هذا الذي إن غضب، غضب له ألف سيف مِن تميم دون أن يسألوا فيما غضب".

التعليقات