31/10/2010 - 11:02

التمويل المشروط لاعادة اعمار غزة / محمود عوض

-

التمويل المشروط لاعادة اعمار غزة / محمود عوض
في ظل «الفوضى الخلاقة» التي جرى فرضها على منطقتنا منذ سنوات، من العراق إلى السودان إلى الصومال وما يستجد، جاءت 24 ساعة في هذا الشهر لكي تلخص جانباً من المشهد. في الذروة بالطبع نجاح مصر في ترتيب وعقد مؤتمر في شرم الشيخ لإعادة إعمار قطاع غزة بمشاركة 71 دولة و16 منظمة دولية. وحسب البيان الختامي للمؤتمر فإن الدول المانحة تعهدت بتقديم مساعدات تصل إلى 4 بلايين و481 مليون دولار لسنتين مقبلتين، من بينها 1.65 بليون دولار من دول الخليج و552 مليون دولار من المفوضية الأوروبية مجتمعة و900 مليون دولار من الولايات المتحدة.

تجاوزت الوعود بالمساعدات إذن كل التوقعات التي كانت سائدة حتى اليوم السابق للمؤتمر. ويبدو أن هذا هو ما جعل السلطة الفلسطينية في رام الله تتقدم إلى الجامعة العربية بالقاهرة في اليوم التالي طالبة دعماً إضافياً آخر من الدول العربية لميزانيتها. دعم يصل إلى خمسمئة مليون دولار من أجل دعم ميزانيتها السنوية كعنوان أول، أو لتمكينها من «مواجهة الاحتياجات الإنسانية والصحية الطارئة نتيجة للعدوان الإسرائيلي» على قطاع غزة كعنوان بديل. وكما هو معروف فإنه منذ القمة العربية في بيروت في آذار (مارس) 2002 تحصل السلطة الفلسطينية في رام الله على 660 مليون دولار سنوياً كدعم من الدول العربية بحسب نسب مساهماتها في ميزانية الجامعة العربية. سلطة رام الله من يومها لم تقدم إلى الدول العربية كشف حساب أولا بأول عن مصير تلك المبالغ وهو ما ساهم بدوره في عملية فساد وإفساد سجلها البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، كما أن كل دولار يذهب إلى السلطة الفلسطينية في رام الله يتم توريده أولاً إلى بنوك إسرائيلية ليخرج منها تالياً إلى الفلسطينيين بالشيكل الإسرائيلي حسب اتفاقات سابقة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.

من قبل مؤتمر شرم الشيخ ومن بعده استمر الحصار الإسرائيلي ضد قطاع غزة. وزادت من وحشيته حرب إسرائيل على القطاع التي استمرت 22 يوماً أعلنت إسرائيل بعدها وقف إطلاق النار من جانب واحد حتى تستمر طليقة الأيدي كما اعتادت سابقاً. إسرائيل تحججت في حصارها بوجود حركة «حماس» في السلطة في قطاع غزة. لكن غارات إسرائيل التدميرية في قطاع غزة (والضفة الغربية) كانت مستمرة في ظل سيطرة حركة «فتح» قبل «حماس» قبل انتخابات كانون الثاني (يناير) 2006. في مرحلة ترويج إسرائيل المبكر لاتفاق أوسلو مثلا مع منظمة التحرير الفلسطينية سمحت إسرائيل للسلطة الوليدة بافتتاح مطار في غزة لكي تقوم في سنة 2000 بتدميره تماماً. وكانت سمحت لها أيضاً من حيث المبدأ بفتح ميناء بحري لغزة وتسيير خط حافلات يربط غزة بالضفة الغربية. ومع أن الولايات المتحدة كانت هي التي توسطت لدى إسرائيل لإبرام ذلك الاتفاق في تشرين الثاني (نوفمبر) 2005 إلا أن إسرائيل ألغت موافقتها تالياً إحكاماً لحصارها ضد القطاع. وفي الحرب الأخيرة ضد غزة امتد التدمير الإسرائيلي ليشمل المدارس والمستشفيات والمرافق العامة بما جعل السكرتير العام للأمم المتحدة، وهو الهادئ بطبعه، ينطق بكلمات غاضبة وهو يقف بين أنقاض أحد مباني الأمم المتحدة في القطاع.

وكان التقاطع ملفتاً بين بلايين الدولارات التي تمخض عنها مؤتمر شرم الشيخ وبين استمرار إسرائيل في حصار من التجويع والتخريب وقطع الطريق مسبقاً أمام إعمار قطاع غزة. في البداية تعللت إسرائيل بحاجتها إلى اتفاق جديد مع «حماس» للتهدئة بوساطة مصرية. وفي اللحظة التي قدمت مصر نيابة عن «حماس» مثل هذا الاتفاق غيّرت إسرائيل من قواعد اللعبة مضيفة شرطاً آخر لم تذكره سابقاً هو الإفراج عن غلعاد شاليت الجندي الأسير لدى «حماس». الطلب نفسه أبرزه في خطابه في شرم الشيخ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بحجة أن الجندي الإسرائيلي الأسير فرنسي الأصل. تلك الإضافة الإسرائيلية لشروط التهدئة جعلت أحمد أبو الغيط وزير خارجية مصر يقول أمام الكاميرات في شرم الشيخ إن ربط اتفاق التهدئة والسماح بإعمار غزة بالإفراج عن جندي إسرائيلي واحد هو «أمر مستغرب خصوصاً أننا نعلم بوجود 11 ألف سجين فلسطيني في السجون الإسرائيلية».

أموال مؤتمر شرم الشيخ ستظل إذن موقوفة التنفيذ إلى أن تفك إسرائيل حصارها ضد قطاع غزة، ولو في جزئية المعابر. وحتى هذا لم يعد كافياً بعد حرب غزة. فإزاء الوحشية الإسرائيلية المستمرة ضد البشر والحجر تابعنا أنه في البيان الختامي لمؤتمر شرم الشيخ شدد المشاركون على الضرورة الملحة لكسر دائرة التدمير والإعمار في قطاع غزة وطالبوا إسرائيل بالاحترام الكامل للقانونين الدولي والإنساني ووقف استهداف أو تدمير البنية التحتية المدنية والاقتصادية للقطاع. لكن وزير خارجية النرويج يوهانس ستور كان هو الأعلى صوتاً في التعبير عن غضبه قائلاً: «نحن نرفض تقديم أي مبالغ مالية أو تعهدات من أجل إعمار غزة. فليس من المعقول أن نقوم بالإعمار ثم تدمر إسرائيل المنشآت التي نعمرها كما حدث في السابق. نحن نريد ضمانات دولية قبل دفع أي مبالغ حتى لا يتكرر الأمر». الوزير هنا لم يكن يتنصل من المساهمة المالية، فالنرويج مستمرة في منحة التزمت بها منذ مؤتمر سابق في باريس للمانحين جرى في كانون الأول (ديسمبر) 2007. بل إنها زادت عليها بنسبة عشرة في المئة. فقط كان الوزير النرويجي قد شاهد بنفسه حجم ومستوى التدمير الذي ألحقته إسرائيل في قطاع غزة في حربها الأخيرة فبدأ يكرر دعوته إلى الحكومة الإسرائيلية القادمة بضرورة أن تؤكد التزامها الدائم والمستمر بحل الدولتين، اي قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل.

وزيرة خارجية أميركا هيلاري كلينتون كررت أيضاً التزام بلادها بحل الدولتين لكن هذا الحل معلن وقائم كونه التزاماً أميركياً بلسان جورج بوش منذ 2002، ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس جاءت إلى إسرائيل والمنطقة 19 مرة، بينما قامت الإدارة الأميركية نفسها بعمل كل ما يقطع الطريق أمام هذا الحل على أرض الواقع. هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية في الإدارة الجديدة، مع ذلك حرصت على أن تعلن في شرم الشيخ أنها حصلت على ضمانات من محمود عباس وسلطته بأن أموال الإعمار «لن تقع في الأيدى الخطأ» بما يفيد إبعادها تماماً عن حركة «حماس» الحاكمة في قطاع غزة.

هذا اللغم الإضافي كرره شمعون بيريز رئيس إسرائيل في اليوم نفسه, وبنيامين نتانياهو في اليوم التالي وشدد عليه الرئيس الفرنسي بصياغة مختلفة، بما جعل أصواتاً في «حماس» تعلن استنكارها إعمار غزة عن طريق رام الله. والواقع إن هذا الشرط الإضافي سيصبح عائقاً جديداً أمام الدور المصري بعد أن كانت مصر قد جمعت في القاهرة قبل أيام من مؤتمر شرم الشيخ بين ممثلي «حماس» و «فتح» لتشجيعهم على المضي في طريق تشكيل حكومة توافق قبل نهاية الشهر الجاري، وبذلك يصبح مفترضاً أن تتولى تلك الحكومة الإشراف على إعادة الإعمار في قطاع غزة والضفة الغربية معاً.

كان ذلك الاتفاق هو أول خطوة جادة لتسوية الشقاق المتفاقم منذ منتصف حزيران (يونيو) 2006 بين «فتح» و «حماس». والشروط الإسرائيلية الأميركية الجديدة ستجعل «فتح» أكثر استقواءً على «حماس» وتجعل «حماس» أقل تطلعاً إلى المستقبل. وفي أي حال فإن سجل كل منهما في الأخطاء لا يقل عن الآخر. وفي شرم الشيخ كان الخلاف واضحاً بين المموّلين أيضاً. فالدول الأوروبية تريد الدور الأساسي لآليتها الخاصة بينما أميركا تريده لوكالة التنمية الأميركية، ودول الخليج تمسكت بأن تقدم التزاماتها من خلال «صندوق الخليج».

في وضع آخر كان الحل الموضوعي هو عدم تسييس أموال الإعمار من الأساس وتركيزها في آلية فلسطينية عربية من خبراء وليس سياسيين وبذلك يتم تفادي فساد «فتح» وايديولوجية «حماس» وأيضًا تطفل (بل رقابة) إسرائيل. لكننا هنا لسنا في ذلك «الوضع الآخر».

نحن فقط أمام تقاطع بارز بين الصورة كما بدت في شرم الشيخ والأصل كما جرى في إسرائيل. ففي يوم اجتماع شرم الشيخ نفسه كانت إذاعة الجيش الإسرائيلي تكشف عن خطط أعدها وزير الإسكان ببناء 73 ألف مسكن جديد في الضفة الغربية المحتلة لاستيعاب 280 ألف مستوطن جديد هناك. وحينما غادرت وزيرة الخارجية شرم الشيخ متجهة إلى إسرائيل لم تشر بالمرة إلى المستوطنات الإسرائيلية، قديمها وجديدها. وهكذا لخّص يوم واحد تقاطعات عقود بينما السلام في المنطقة لا يزال أبعد منالاً.


* كاتب مصري



"الحياة"

التعليقات