31/10/2010 - 11:02

الرطل الصيني والأوزان الغربية../ فيصل جلول

الرطل الصيني والأوزان الغربية../ فيصل جلول
يرصد رجال السياسة والفكر في الغرب أحوال العالم بالقياس الى مصيرهم، ويحسبون تطور البلدان والأمم تصاعدياً بالمقارنة مع تطور الغرب، حتى إذا ما تبين لهم أن هذا التطور يندرج في الترتيب الهرمي الذي يعتلون قمته ولا يعيد النظر بعلاقات القوى “المتطورة” يبارك البلد المعني ويمنح شهادة الرضى، والا فانه يثير الشكوك وتسلط عليه الاضواء السلبية الكاشفة.

لم يثر تطور النمور الآسيوية حفيظة الغربيين لأنه وقع في محيط الاقتصاد الياباني، وكان رافعة مهمة في إنعاش الاقتصاد الغربي وتزويده بأبعاد ضروية يحتاجها التوسع الرأسمالي على الصعيد الدولي، أما التطور الياباني فعلى اهميته الحاسمة، لم يطرح مشاكل عويصة على الغربيين ما دامت اليابان محمية عسكرياً من اكبر قوة “متطورة” في العالم، وما دام ثراؤها يقع تحت رحمة مدافع الغرب، ناهيك عن أن ثقلها الديمغرافي لا يبعث على الخوف، وهي لم تستخدم يوماً ثروتها استخداماً سياسياً وليس معروفاً عنها، منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، خروجها عن الخط الغربي في النزاعات الدولية.

بالمقابل لا يزال تطور روسيا والصين يثير مخاوف الغربيين، بل يقض مضاجعهم. فالولايات المتحدة الأمريكية ما برحت تسعى لتركيز قواعدها العسكرية على حدود الاتحاد الروسي، ولا تزال تصر على إقامة درع صاروخية استراتيجية في تشيكيا وبولونيا متسببة في أزمة لم تتم فصولاً بعد مع موسكو، وهذا غيض من فيض اختبار القوة بين البلدين.

اما الصين، فلا تغادر مراكز الرصد “الحضاري” الغربي ابداً منذ إصرارها على التطور في سياق يجمع أفكار كارل ماركس وكونفوشيوس وادم سميث معاً، فقد نشر الوزير الفرنسي الديغولي الراحل “الان بيرفيت” كتاباً من جزأين بعنوان استفزازي” “عندما تستيقظ الصين” رأى فيه مبكراً أن يقظة هذا البلد العملاق تهدد بقوة نفوذ الغرب في العالم. ولو كان بيننا اليوم لطالب بالاعتذار من النقاد الذين سخروا من توقعاته حين صدور الكتاب قبل أكثر من ثلاثة عقود.

لم تكن العلاقات الصينية الغربية مشوبة بتوتر ظاهر قبل التعرض ل”الشعلة الأولمبية”، ذلك لأن بكين اعتمدت مواقف “معتدلة” في الازمات الدولية، فهي وقفت الى جانب الغرب في الملف الكوري الشمالي، ولم تتعد السقف الفرنسي في الازمة العراقية، ولم تشاكس في الملف اللبناني، ولم تنفرد بموقف قوي في قضية دارفور رغم حيوية النفط السوداني، والتزمت نظام العقوبات الغربي تجاه ايران ولم تستخدم حق النقض (الفيتو) ولم تلوح به كما فعلت فرنسا جاك شيراك.

كان تحركها يحاذي مصالحها المباشرة التي صارت اكثر تداخلاً على الصعيد الاقتصادي مع المصالح الغربية، وثمة من يعتقد انها صارت تتحكم اقتصادياً برقاب الغربيين من دون اعتماد نموذجهم السياسي كاملاً، ناهيك عن احتفاظها بالوسائل العسكرية اللازمة لحماية ثروتها، وهو ما كان، ولا يزال يثير قلق الغربيين الصامت إلى حين اندلاع قضية “التيبت” بالتزامن مع انطلاق الشعلة الاولمبية في اثينا مطالع الشهر الماضي. هذا اذا ما اردنا اعتبار احتجاز الصين لطائرة التجسس الامريكية الشهيرة قبل اربع سنوات حدثاً مخابراتياً كلاسيكياً.

لا نعرف ما اذا كان روبير مينار يدرك حجم القضية التي اثارها عندما تحرش باحتفال إطلاق الشعلة الأولمبية في اثينا. ما نعرفه أن هبوط وسائل الاعلام الغربية العملاقة على هذا الحدث البسيط ونشره في ارجاء العالم يضمر شراً ادركه القادة الصينيون منذ اللحظة الاولى. ذلك ان مينار يرأس منظمة “صحافيون بلا حدود” ويهتم عادة بحرية الصحافة في العالم، ولا يقع اقليم التيبت في دائرة اختصاصه، فضلاً عن أن التحرش بالاحتفال اقتصر عليه وعلى عضو آخر في منظمته، وبالتالي كان يمكن ان يحتل زاوية مهملة في بعض وسائل الاعلام لو لم يكن التحرش مدبراً، ليكون نقطة انطلاق في تسليط الاضواء على قضية عمرها سبعة قرون، وتحتل ربع مساحة الصين قبل شهور من مهرجان بكين الاولمبي الاول في تاريخها.

رد الصينيون على التحرش بمبادرات رادعة، مستفيدين من خطأ لا يغتفر اقترفه المتحرشون في باريس عندما تعرضوا لرياضي صيني معاق كان يحمل الشعلة الأولمبية فبدا التحرش وكأنه دفاع عرقي عن حقوق الانسان في التيبت وليس دفاعاً مجرداً من الاغراض، والا كيف ينتهك حق معاق صيني في التعبير في “عاصمة حقوق الانسان”؟ ومن ثم بادروا الى تحرش موجع امام محلات “ارفور” الفرنسية في الصين، وعبر تظاهرات ضمت الآلاف في العديد من العواصم الاوروبية تجمع بعضها حول محطات ال”سي ان ان” وال”بي بي سي” ولوح المتظاهرون بمقاطعة البضائع الفرنسية، فكان ان التقطت باريس الرسالة وبادرت الى التراجع والتهدئة من خلال دعوة الرئيس نيكولا ساركوزي للرياضي الصيني المعاق الى قصر الاليزيه في رسالة خاصة حملها رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي بنفسه الى بكين، ناهيك عن زيارة تهدئة سيقوم بها نائب رئيس الحزب الحاكم جان بيار رافاران بالتنسيق مع جاك شيراك الذي يتمتع بسمعة حسنة لدى الرأي العام الصيني. في هذا الوقت طالبت الحكومة الصينية مواطنيها بالخلود الى السكينة، ما يعني ان الامور قد تعود الى مجراها الطبيعي، وان الألعاب الاولمبية قد تلتئم من دون منغصات كبيرة.

أغلب الظن أن التحرش الغربي بالصين قد حقق غرضاً تكتيكياً مهماً، إذ وضع علامة سوداء فارقة في صفحة حدث رياضي كوني ارادته الصين مناسبة لتكريس تفوقها الاقتصادي على الصعيد الدولي، ومعرضاً جاذباً لأسواقها الظافرة ولحضارتها الموغلة في التاريخ. بالمقابل كشف التحرش الاولمبي مرة أخرى عن محدودية هامش المناورة في التنافس الصيني الغربي لدى الغربيين الذين اكتشفوا ما كانوا يعرفونه من قبل، وهو أن أوزانهم آخذة في التضاؤل بالمقارنة مع الوزن الصيني العملاق. في بلادنا حكمة شعبية تقول: الرطل يحتاج الى رطل وأوقية لموازنته، وعليه فقد صار واضحاً لمن يبحث عن الوضوح في العلاقات الدولية أن موازنة الرطل الصيني تحتاج الى اوزان اكبر من وزن الريشة ممثلاً بروبير مينار او الدلاي لاما وصولاً الى ال”بي بي سي” وال”سي ان ان”... الخ.
"الخليج"

التعليقات