31/10/2010 - 11:02

الشهور القادمة مثيرة../ جميل مطر*

الشهور القادمة مثيرة../  جميل مطر*
أمريكا تتغير بسرعة. ولكن أمريكا ليست مثل باقي الدول التي تتغير، فالتغيير في فرنسا أو ألمانيا أو حتى روسيا والصين لا يؤثر حتماً أو بالضرورة في دول أخرى كالتغيير في أمريكا. لذلك ينظر بعض المفكرين بقلق شديد إلى الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في الولايات المتحدة بعد أقل من عام، ولكن القلق هذه المرة ليس بسبب ما سيتغير بقدر ما هو بسبب ما لن يتغير.

يعتقد هذا البعض، وأشاركه الاعتقاد، أنه إذا جرت هذه الانتخابات بينما بقيت سارية القوانين الاستثنائية التي شرعتها إدارة الرئيس بوش خلال الأعوام السبعة الماضية، فإنها، أي هذه القوانين والأفكار والنظريات التي مهدت لها، سوف تحصل على شرعية جديدة وعلى قوة ثبات واستمرارية، إذ ستعتاد عليها الطبقة الحاكمة في أمريكا، ويقع في حبائل غوايتها عدد أكبر من أنظمة الحكم في الأمريكتين وخارجهما، رغم الزيادة المطردة في حالات التقليد التي جرت خلال العامين الأخيرين.

في هذا السياق، صدر للكاتبة نعومي وولف كتاب بعنوان “نهاية أمريكا”. وكتبت وولف تحت هذا العنوان المثير تقول إن أمريكا التي عرفها الأمريكيون وغيرهم تقترب بسرعة من خط النهاية، وتدلل على رأيها بتقديم صورة قاتمة للأوضاع السياسية الراهنة في أمريكا ولمستقبلها في الأجل القصير، إلى درجة أنها تقدر أن الشهور القادمة قد تشهد ممارسات وإجراءات بالغة الأهمية لأن القوى السياسية والاقتصادية صاحبة المصلحة في وجود القوانين الاستثنائية قررت تثبيتها ودعمها لتصبح جزءاً أو أجزاء لا تتجزأ من الكيان الدستوري الأمريكي ومن فلسفة الحكم في الولايات المتحدة.

تقول وولف إنها تتوقع خلال الحملة الانتخابية انتشاراً لأعمال “بلطجة” على نطاق واسع، تستغل تظاهرات أو ردود فعل جماهيرية احتجاجاً على حرب العراق التي لن تتوقف قريباً، أو على الأوضاع الاقتصادية أو قوانين الهجرة أو غيرها من القضايا التي يهتم بها أو يعاني منها الرأي العام. هذه المظاهرات سوف تتسلل إلى صفوفها “عصابات البلطجية” لتخرب وتدمر الممتلكات وتشعل الحرائق ويسقط بسببها بعض القتلى، فينتشر الخوف بين المواطنين. وترى السيدة وولف، كما يرى العديد من المفكرين في الغرب، أن الخوف صار الكلمة السحرية في قاموس السياسة المعاصرة، بعد أن أثبتت أنه العنصر الحاسم والأساسي في قيام أنظمة الاستبداد أو استمرارها خلال القرن الماضي وبدايات القرن الجديد.

قد لا نتفق مع القول إن فضل اكتشاف الخوف كعنصر حاسم وأساسي وراء فرض الاستبداد يعود إلى بنيتو موسوليني وأدولف هتلر خلال العقود الأولى من القرن العشرين، فالسياسيون الذين سبقوهما في أوروبا وبخاصة هؤلاء الذين قادوا بلادهم على طريق الاستعمار مارسوا وبكفاءة هائلة على امتداد قرون عمليات زرع الخوف في شعوب إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، بل وشعوب أوروبا نفسها.

وتعتقد الكاتبة وولف أن النظام الستاليني في روسيا انبهر بسياسات نشر الخوف وترهيب المواطنين التي طبقها النظام الفاشي في إيطاليا ثم النظام النازي في ألمانيا، وظل ينتقي منها ما يساعده في تثبيت دعائم الحكم في روسيا وانتهى بالتأكيد متفوقاً بامتياز على من كان لهما الفضل.

نعرف، وهو شائع بين بعض علماء النفس والسياسة، أن الشعب الخائف لا يميل إلى التغيير ولا يحب سماع وعود من السياسيين بالتغيير، بل يصبح محافظاً إلى حد كبير ومستعداً لأن يختار فقط من يعد بحمايته من مصدر التهديد والخوف. لم يعد غريباً أو جديداً على كل حال أن تحتوي معظم الخطابات السياسية، وبخاصة الانتخابية لحكام هذا العصر، على نغمتين متناغمتين إحداهما تضخم مصادر الخوف كالإرهاب أو الجريمة أو الحروب، والثانية تقدم الوعود بالتصدي لها.

هكذا مثلاً قرأنا الوثيقة الشهيرة في وثائق نظام الجنرال بينوشيه، أحد أسوأ مراحل الاستبداد وأشد نماذجه قسوة في القرن العشرين. كانت هذه الوثيقة عبارة عن خطة وضعت قبل الانقلاب على حكومة الرئيس سلفادور أليندي المنتخبة ديمقراطياً، وتتضمن نية الإعلان عن أن قيادات الجيش وتيارات اليمين المحافظ اكتشفت خطة إرهابية واسعة النطاق لاغتيال شخصيات عديدة في الحكومة وفي المعارضة وتدمير منشآت حكومية وممتلكات ومرافق. وبالفعل، انتشر الخوف بين المواطنين في شيلي وخرجت مظاهرات اندست فيها عصابات من “البلطجية” مدبرة ومدربة تخرب المحال العامة في العاصمة سنتياجو، وكان طبيعياً، والحال على ما هو عليه، أن يطالب الناس بتدخل الجيش، فتدخل وخضعت البلاد لديكتاتورية عسكرية نعرف الآن أن الإعداد لها جرى في الولايات المتحدة، وكان هنري كيسنجر في السلطة ولم ينكر تفاصيل ما حدث عندما أذيعت وورد اسمه فيها.

الجديد، والخطير في رأي العديد من المفكرين المنتمين لحركات الاحتجاج في الغرب، أن أمريكا التي كانت تدعم قيام حكومات استبدادية في أنحاء متفرقة من العالم، ثم صارت تدعم قيام حكومات ديمقراطية، هي الآن تعاني من انحدار سياسي داخلي نحو الاستبداد. وتعبر كتابات كثيرة في الغرب، وبخاصة في ألمانيا، عن حالة فزع من كثرة مظاهر الانحدار من الديمقراطية إلى الاستبداد في أمريكا.

وكنت قد كتبت منذ شهور غير قليلة عن ندوة عقدت في الولايات المتحدة على مستوى أكاديمي وعسكري رفيع، ناقش المجتمعون فيها احتمالات تولي العسكريين الحكم في أمريكا. وكان الدافع إلى عقد الندوة اتساع الفجوة بين المنظومة الدستورية الأخلاقية التي يقوم عليها الحكم في أمريكا وبين تدهور ممارسات الطبقة السياسية وبخاصة في مجال الحقوق والحريات والعدالة. وعلى الرغم من جدية الحوار وقوة حجج المشاركين، خرج القراء، وأنا منهم، بانطباعين ليسا تماماً متناقضين، أولهما أن فتح هذا الموضوع للنقاش كسر حاجزاً معنوياً تقليدياً كان يقطع باستحالة الربط بين العسكريين والسياسة، وثانيهما أن تغييراً جذرياً يحدث في أمريكا، وأن أمريكا التي عرفناها معايشة أو دراسة أو هيمنة، هي الآن على وشك أن تفعل بنفسها ما فعلته في أمم أخرى حين شجعت حكامها على زرع الخوف وتقييد الحريات وقمع الحقوق بحجة الحماية ضد مصادر الخوف، فدخلت في دائرة مفرغة ومفزعة.

من أجل وقف هذا التدهور كتبت نعومي وولف تحذر من مصير ينتظر أمريكا. تقول وولف إن الحكومة الأمريكية حين أصدرت قانون التفويض العسكري لعام 2007 كانت تستعد به لإعلان حالة الطوارئ في الوقت الذي تختاره، أي في الوقت الذي تتأكد عنده أن الخوف قد تمكن فعلاً من الشعب الأمريكي. يعرف الشعب الأمريكي أن إجراء الانتخابات يعني وجود ديمقراطية. ولا يعرف أن الانتخابات قد تجرى تحت شبح الخوف، وتضرب وولف المثل بالنمسا عندما صوت الشعب النمساوي للانضمام إلى ألمانيا النازية. وبسبب قلة خبرة الأمريكيين بالاستبداد وأساليبه، فقليلون هناك الذين ربطوا بين محاولة البيت الأبيض فصل عدد من رجال الادعاء في وزارة العدل فيما عرف بفضيحة جونزاليس وبين قرار جوبلز في 1933 فصل عدد هائل من قضاة ألمانيا. وتعتقد وولف، ولا أستطيع أن أتحقق من صحة اعتقادها، أن المحاولة كانت خطوة على طريق الاستعداد للتدخل في الانتخابات الرئاسية القادمة. وباءت بالفشل، ولن تكون آخر محاولة.

وبناء على دراستها للنظم الاستبدادية التي قامت في أوروبا وأمريكا اللاتينية، تشرح وولف الطريقة التي تستعد بها الطبقة السياسية، أو فرع فيها، لإقامة نظام استبدادي. هذه الطريقة تعتمد على عشر نقاط يجب توافرها جميعاً أو أغلبها كدليل على أن نظاماً ما يستعد للانقلاب على الديمقراطية. هذه النقاط هي:

1- تحديد عدو داخلي أو خارجي وتضخيمه إن احتاج الأمر.
2- إقامة معسكرات اعتقال أو التوسع فيها.
3- تدريب جماعات بلطجة.
4- إقامة نظام رقابة محكم على الأفراد.
5- التضييق على المنظمات والجمعيات الأهلية.
6- التوسع في عمليات الحجز والاعتقال.
7- استهداف أشخاص معينين معروفين في المجتمع والتضييق على أنشطتهم ومصالحهم.
8- السيطرة على أجهزة الإعلام الأساسية.
9- التعامل مع المعارضين كخونة للوطن.
10- تعطيل العمل بالقانون بين وقت وآخر أو في حالة وأخرى.

كثيرة هذه الأصوات التي ستتهم المعارضين لإدارة الرئيس بوش بالغلو والمبالغة، ولكن تبقى حقيقة واضحة أنه أصبح لدى حكومات دول عربية في العالم انطباع وربما اقتناع بأنها تستطيع إصدار قوانين استثنائية وتوسيع دائرة الاعتقال والحجز وتدريب قوات خاصة على أعمال البلطجة، من دون أن تخشى لوماً أمريكياً، فشيء من كل هذا يحدث هناك. أشعر بعد قراءة ما كتبته وتحدثت عنه نعومي وولف وآخرون من المفكرين الذين تعكس كتاباتهم حالة “اكتئاب” أو “تشاؤم” في أمريكا أن الشهور القادمة وحتى إعلان نتائج انتخابات الرئاسة القادمة في أمريكا ستكون مثيرة وقد تكون بالنسبة للبعض “مخيفة”.
"الخليج"

التعليقات