31/10/2010 - 11:02

بيان يستدرج انقلاباً../ فيصل جلول

بيان يستدرج انقلاباً../ فيصل جلول

ربما كان الرئيس الموريتاني المطاح به سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله يراهن على المجتمع الدولي في حمايته من ردود فعل قادة الجيش والدرك والأمن الداخلي الذين أقالهم في بيان واحد صبيحة الخميس الماضي قبل بدء الدوام الرسمي في دوائر الدولة في نواكشوط. كان رهانه صحيحاً في الشكل وخاطئاً في المضمون، فقد صدرت ادانات أمريكية وأوروبية وإفريقية للانقلاب العسكري الذي تلا البيان وعلقت عضوية موريتانيا في الاتحاد الإفريقي، ومن ثم ساد الصمت وانصرف المعنيون لمتابعة الألعاب الأولمبية ومواكبة الحرب الروسية الجورجية المفاجئة حول أوسيتيا الجنوبية. في هذا الوقت كان الجنرال محمد ولد عبدالعزيز يستقبل سفراء الدول الكبرى ويجري اتصالات خارجية بمن يعنيهم الأمر لترتيب شؤون الحكم الجديد وكأن شيئاً لم يكن.

وربما كان ولد الشيخ عبدالله يظن أن المعارضة والموالاة في نواكشوط ستهبان للدفاع عنه إذا ما انقلب على الجيش حتى تحفظ حقها في السيرورة الديمقراطية التي اتفق الجميع حول وجوب حمايتها من تدخلات العسكر. هنا أيضاً كان رهانه صحيحاً في الشكل وخاطئاً في المضمون، فقد صدرت بيانات مناهضة للانقلاب باسم بعض المعارضين، في حين بارك المعارض الأبرز أحمد ولد دادة الانقلاب، ومن ثم تراجع الحماس في الدفاع عن الرئيس المخلوع رغم الفرص المتاحة للكلام والادانة، ذلك بأن العسكريين لم يعلنوا الأحكام العرفية ولم ينظموا حملة اعتقالات واسعة ولم يوقفوا الإرسال المباشر للفضائيات العربية.

لقد أهمل ولد الشيخ عبدالله في حسابه لردود الفعل المتوقعة على بيانه حقيقة أن الشارع الموريتاني يعرف بالتواتر القبلي كل التفاصيل المتعلقة بتنصيبه رئيساً (ولو بالاقتراع الشعبي) وان العسكريين الذين أقالهم جاءوا به من الهامش إلى صدارة المسرح، وأن خلافه معهم ليس على “الديمقراطية” وإنما على وسائل الحكم. هو يريد حيزاً دائماً يوفر مصالح ثابتة له ولأنصاره وأقربائه، وهم يريدون شيئاً آخر. هو انتشى برئاسته وظنها محرمة ومحمية ومحصنة بالعلاقات الدولية وهم أرادوا القول لمن يسمع أن الحصانة والحماية تكونان منهم ولهم ولا تكونان لمن يختارون من أهل الحكم. هو توهم انه من طينة الرؤساء الغربيين فدفع ثمناً غالياً وهم برهنوا ثانية أنهم من طينة الجنرالات الأتراك الذين عينوا لأنفسهم مهمة وطنية تاريخية، وأن على أهل الحكم المدنيين أن يندرجوا في إطار هذه المهمة أو أن يتفرغوا لشؤونهم الخاصة.

ثمة من يدافع عن ولد الشيخ عبدالله بوصفه عنواناً ل”ديمقراطية” فريدة من نوعها في إفريقيا وفي ما كان يسمى “العالم الثالث” عموماً، وهو دفاع يستحق الثناء في جانبه المبدئي حصراً، فالخطاب الديمقراطي لا يتحمل أفعال الجنرلات من ذوي النجوم الخمس، لكن الدفاع عن الديمقراطية الموريتانية يهمل لسبب ايديولوجي سوء تدبير ولد الشيخ عبدالله فقد اطاح في بيان واحد قادة الجيش الكبار، في حين أن خطوة من هذا النوع ما كان لها أن تمر مرور الكرام حتى في الديمقراطيات الغربية العريقة. فلو أقيل قادة الجيش في سويسرا الوادعة بهذه الطريقة لما تمت الإقالة على خير، علما بأن الحكام المنتخبين في أوروبا يحترمون الهرمية العسكرية في جيوشهم ويباركون الترقيات والمناقلات التي تأتيهم من قادة تلك الجيوش، ولعل الحالة الوحيدة التي يقال فيها قادة الجيش في آن هي حالة الهزيمة العسكرية الشاملة إثر حرب طاحنة، وهنا لا ينتظر العسكريون قرار إقالتهم، فهم يبادرون إلى التخلي عن مناصبهم احتراماً لمجتمعهم وللمؤسسة العسكرية ولأنفسهم أولاً وأخيراً.

لم يهزم الجيش الموريتاني في حرب طاحنة حتى يقال قادته في بيان مقتضب من دون تعليل مناسب، ولم تترسخ قواعد الديمقراطية في البلاد بما فيه الكفاية حتى يصبح الجيش مهيأ للرضوخ لإرادة السياسيين المنتخبين، ذلك بأن عمر التجربة الجديدة في هذا البلد لا يتجاوز الشهور الخمسة عشر، وهي انطلقت بمبادرة من عسكريين انقلابيين قرروا في العام 2005 وضع حد لسلطة زميلهم معاوية ولد سيدي أحمد الطايع المطلقة، وتسليم السلطة المدنية للمدنيين عبر صناديق الاقتراع، وبالتالي لا يمكن التخلي عنهم أو معاقبتهم بهذه الطريقة الغريبة.

كان يمكن لأول تجربة ديمقراطية في العالم العربي أن تكون مفيدة كمثال يحتذى لو اعتمد ولد الشيخ عبدالله أحد السيناريوهات التالية:

أولاً: الاستقالة من منصبه لتعذر الحكم بسبب ضغوط العسكريين، وفي هذه الحالة كان سيضع الجنرالات في “بيت اليك”.

ثانياً: التوصل إلى مساومة خلف الأضواء مع الجنرالات أو مع مؤيديهم في مجلس النواب والشيوخ تتيح حفظ ماء الوجه للجميع.

ثالثاً: الرهان على الوقت لحل الأزمة الناجمة عن استقالة الشيوخ والنواب، ومن ثم التلويح بمساومة مشرفة.

رابعاً: التشاور العلني مع الكتل السياسية المعارضة والموالية في وسائل حل المشكلة واعتماد حلول وسطية بعد هذه المشاورات التي يمكن نقل وقائعها عبر وسائل الإعلام.

أكبر الظن أن ولد الشيخ عبدالله لم يعتمد هذه السيناريوهات لاعتقاده أن رئاسته محصنة دولياً، وربما لأن الانتقام تغلب على ملكة الصبر والحكمة فكان أن استدرج انقلاباً غريب الأطوار في بلد غريب الأطوار.
"الخليج"

التعليقات