31/10/2010 - 11:02

بين الدب الروسي والسنجاب الجورجي المتأمرك../ عبد اللطيف مهنا

بين الدب الروسي والسنجاب الجورجي المتأمرك../ عبد اللطيف مهنا

إن روسيا اجتاحت بلداً مستقلاً... إن عملاً مماثلاً غير مقبول في القرن الحادي والعشرين. إن هذه الأفعال أضرّت بشكل كبير بمكانة روسيا في العالم"... ترى من هو القائل؟
إنه الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، منتقداً الضربات القاصمة التي وجهها الروس لحليفه ميخائيل ساكاشفيلي الرئيس الجورجي إثر مهاجمة الجيش الجورجي لأوسيتيا الجنوبية!

سيقول الكثيرون، وقالها الروس قبل الجميع، إن الرئيس الأمريكي هو آخر من يحق له قول مثل هذا الكلام. وسيقول آخرون، إن الرجل هو منسجم مع نفسه ومع المعايير الغربية الإنتقائية في التعامل الغربي المعروف مع كل القيم والأعراف والقوانين الدولية والتي عرفتها الإنسانية إجمالاً...

المتحدث، وفي القرن الواحد والعشرين، اجتاح بلدين مستقلين تفصلهما عن بلاده قارات ومحيطات، هما أفغانستان والعراق، ليغير نظاميهما القائمين بالحديد والنار، ويقتل ويشرّد في البلد الأول الآلاف، وفي الثاني الملايين، هاتكاً كل الوشائج التي تقوم عليها وحدة الثاني، ومدمراً كل الأسس التي قامت عليها دولته... وحيث لازالت بلاده تواصل تنفيذ فعائله، محكومة بهوس الإمبراطوريات التي لا تمتلك خيار التراجع، فهو يستعد الآن لمغادرة السلطة مخلفاً لها وراءه تركة ثقيلة، وسمعة ولا أسوأ، وصورة ولا أقبح، لن ينجو من حمل وزر تداعياتها من سيخلفه في البيت الأبيض. وهي ذات بعدين هما:

الورطة والفشل اللذين تواجهان مشاريع هيمنة امبراطورية اتخذت من البلطجة والسطو على مقدرات الأمم سبيلاً لفرضها. وهما ورطة وفشل يشهد عليهما تنامي قوة وقدرة طالبان، وإطلالات الملا عمر، وغلب الدين حكميتار، يضاف لهما رديف مستجد هو "طالبان باكستان"، وصولات وجولات المقاومة العراقية، التي كانت الأسرع اندلاعاً في تاريخ الاحتلالات ومواجهة الغزوات... وإلى هذين، الورطة والفشل، هل لنا أن نتجاهل فشلاً آخراً وهو حربه الكونية على عدوه اللامرئي المسمى بالإرهاب، حيث تذكِّره الإطلالات المتكررة لأيمن الظواهري بهذا الفشل، وبأنه إن رحل عن البيت الأبيض فإن خلفه لن يعدم مثل هذه الإطلالات؟! وبعد هذا تأتي مشاكل الاقتصاد الأمريكي المتفاقمة، وكافة مؤشرات بداية العد العكسي للسطوة الأمريكية، وما ينبيء بحتمية مواجهة استحقاقات الصيرورة ذاتها التي حكمت مصائر ما سبق من امبراطوريات قد بلغت أوج قوتها وغطرستها ومن ثم أخذت رويداً رويداً طريقها ذو الاتجاه الواحد صوب الانحدار.
ما الذي فعله الروس؟!

المشهد القوقازي بعد خمسة ايام فحسب من غضبة الدب الروسي، يجرّنا إلى سؤال آخر هو، وما الذي فعله السنجاب الجورجي المتأمرك فاستجرّ عليه مثل هذه الغضبة العاصفة للدب الروسي المستفز الخارج عن طوره؟!

لقدكانت خمسة أيام كافية لتلقين الجورجيين وسواهم من الجيران الذين يتم تحريضهم للتطاول على الجار الأكبر درساً قاسياً وباهظ الثمن. لقد تم الفتك بالقوى الجورجية المهاجمة، التي ذهبت ضحية حسابات ساكاشفيلي الخاطئة وفق قول حلفائه الغربيين المفترضين، وتم طردها من العاصمة الأوسيتية الجنوبية المدمرة إلى خارج حدود هذه الجمهورية المتمردة على جورجيا، وملاحقتها إلى مدينة جورجية هي غوري والتي لا تبعد عن العاصمة تبليسي سوى ستين كيلومتراً. ثم أعقب ذلك الانتقال إلى أبخازيا فطرد الجورجيين من وادي كودوري الاستراتيجي، أو المنطقة الوحيدة التي كانوا يتواجدون فيها في ابخازيا، وأيضاً ملاحقتهم لإبعادهم عن حدود هذه الجمهورية المتمردة الأخرى عليهم. ثم محاصرة جورجيا بحراً بوضع اليد على أهم موانئهم البحرية مدينة بوتي، ناهيك عن الضربات الجوية الماحقة التي وصلت حتى مطار العاصمة تبليسي والتي طالت عديد القواعد العسكرية الجورجية.

والأهم من كل ذلك، هو استقبال الرئيس الروسي مديديف لرئيس الجمهوريتين الصغيرتين المتمردتين ملوحاً بالاعتراف الروسي بهما كمستقلتين عن جورجيا عندما قال وهو يستقبلهما، إننا "سندعم أي قرار يتخذه الشعبان الأوسيتي الجنوبي والأبخازي. الأمر الذي تردد مثله على لسان وزير الخارجية الروسي لافروف عندما صرّح بأن وحدة الأراضي الجورجية هي "محدودة بحكم الأمر الواقع"، والذي كرره مديدف مرة أخرى وهو يستقبل المستشارة الألمانية ميركل.

وكل هذا ترافق مع مطالبة رئيس جمهورية أوسيتيا الجنوبية، هذه التي لا يتجاوز عدد سكانها السبعين ألفاً، ومعظمهم يحمل الجنسية الروسية، بالانضمام إلى أوسيتيا الشمالية الروسية.

و الآن، ما الذي فعله الجورجيون فاستحق هذا الرد الروسي السريع الحاسم؟!
قد يخطئ من يظن أن هذه الجولة القوقازية هي صراع روسي جورجي فحسب، ولا يصيب كبد الحقيقة إلا من رأها تأتي في سياق الصراع الروسي الأمريكي، بحيث كان ما جرى رداً روسياً على الولايات المتحدة التي وصفها لافروف وزير الخارجية الروسي بأنها "تلعب لعبة خطرةً في القوقاز، حيث تحاول محاصرة الدب الروسي الذي أفاق من سباته الشتوي، ولم يعد يحتمل العبث في حدائقه الخلفية التاريخية، و أحياناً داخل سياج حديقته الروسية نفسها. بل ويستعد لاستعادة دوره السابق المفقود كونياً. لقد رأى الروس بحق أن رعونة ساكاشفيلي المتأمرك والمتصهين مبعثها هو طموحه في أن يخوض حرباً بالوكالة عن الغرب، بل قالها المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة، عندما أكد أن الهجوم الجورجي قد جرى "بالاتفاق مع بعض أعضاء مجلس الأمن"!

والروس، الذين تكمن وراء غضبتهم مثل هذه الرؤيا، يظل ماثلا أمامهم وهم يعالجون هذه المغامرة الجورجية غير محسوبة العواقب، هذا التمدد الأطلسي شرقاً الذي هو قاب قوسين أو أدنى من الالتفاف على أسيجة الحظيرة الروسية بكاملها، بعد أن اخترق حزامها التاريخي المتمثل في جمهوريات الاتحاد السوفيتي المستقلة... دويلات البلطيق، الدرع الصاروخية الأمريكية في بولندا، التي تم التوقيع على اتفاقية بشأنها مع وارسو في توقيت لافت أعقب الحدث القفقاسي، ومع تشيخيا ربما لاحقاً، الثورات البرتغالية أطلسية الهوى في أوكرانيا وجورجيا، والنفوذ الأمريكي في أذربيجان وسواها من جمهوريات آسيا الوسطى، فالقواعد أو الوجود العسكري الأمريكي هناك، الذي أعقب حملات جورج بوش الكونية على الإرهاب، تلك التي بدأتها طلائع فتوحاته الإمبراطورية صوب بلاد الأفغان، أو ما هو في سياق ذات الاستراتيجية الأمريكية الطامحة إلى وضع اليد على طريق الحرير الواصلة بين الروس و قوتي المستقبل القادمتين، التنين الصيني والفيل الهندي، و بالتالي محاصرة الجميع. والتي تعززت فرصها باحتلال العراق وأخذ مصادر طاقة الكون الأساس رهينة في يد العم سام، إلى جانب محاولة القبض على الموقع الاستراتيجي الكوني المتمثل في صرة العالم بأسره المتمثلة في المنطقة العربية.

إذن، الروس لا يرون حرب ساكاشفيلي أو جموحه الأطلسي إلا في سياق إشعال حريق قوقازي لحساب الغرب، أوالولايات المتحدة تحديداً، الأمر الذي يذكرنا بحرب أولمرت الأمريكية على لبنان التي مرت ذكراها الثانية، والتي تشابهت من حيث المردود على الوكيلين الإسرائيلي والجورجي و حصادهما في هاتين الحربين من حيث النتائج. وإذا كانت واشنطن لم تتخلَّ وليست في وارد التخلي عن وكيلها إسرائيل، فإنها بالنسبة لجورجيا سوف تفعل ما فعلته بالنسبة لكل من خاضوا حروبها من الآخرين وفشلوا عبر تاريخها. وهو الأمر الذي بدأ الجورجيون المتأمركون الشكوى منه علناً.

إذاً، ما فعله ساكاشفيلي هو كما وصفته صحيفة "التايم" الأمريكية، هو "تجاوز استراتيجي". وما فعله الروس، كان رسالة خطتها الدبابات إلى كل من يهمه الأمر من الجيران الطامحين في الالتحاق بالتحالف مع الغرب... وقال الروس للأمريكان على لسان لافروف: عليكم الإختيار. إما الشراكة أو النظام الجورجي "الوهمي"!

ماذا فعل الغرب لساكاشفيلي؟
الولايات المتحدة التي صعدت من تحذيراتها، أكدت على لسان الناطقة باسم البيت الأبيض: أن القوات الأمريكية، أو الجسور الجوية الإغاثية التي أقامتها "ليست هناك للدفاع عن الموانئ بل لتقديم المعونة الإنسانية"!

أما الأوروبيون فركنوا إلى المرونة، وتعهدوا عبر ساركوزي بتدويل حل مسألتي أوسيتيا وابخازيا... و الإسرائيليون الذي تعهدوا بناء جيش ساكاشفيلي وإمداده بالأسلحة والمعدات والتقنيات المتطورة بتمويل أمريكي، مع مساعدات أمريكية عسكرية مباشرة بلغت قيمتها الملياري دولار، وشاركوه السلطة في جورجيا، عبر وزير الدفاع ديفيد كزارشفيلي، ووزير حل الصراعات تيمور يعقوب شفيلي، الإسرائيليي الجنسية، وحفنة من الجنرالات الإسرائيليين المتقاعدين الذين يشرفون على بناء الجبش وقوى الأمن الجورجية...

هؤلاء الإسرائيليون بدأوا يتحسبون للعواقب، وعما إذا كان الرد الروسي على دورهم الجورجي سيكون إيرانيا؟!!
لقد كان الدور الإسرائيلي في المشهد القوقازي جلياً، الأمر الذي سوف نفرد له إن شاء الله، مقالنا القادم.

لقد وقع ساكاشفيلي في حضرة كونداليسا رايس اتفاقية ساركوزي ذات البنود الخمسة التي قبلها الروس، شاكياً التخلي الأوروبي عنه، ممتناً للدعم الأمريكي الذي لم يتعدَّ التحذيرات، و الإغاثة الإنسانية... أي فرضت روسيا شروطها القفقاسية فيما دعته " الانتهاء من عملية السلام في جورجيا"، و التي كان من نتائجها وفق قولها أن "المعتدي نال عقابه ومني بخسائر جسيمة"، و كان من دروسها أن البعيد لا يحمي من الجار القريب... كانت روسيا مستفيدةً من سوابق غربية تعزز حججها وتفحم الغرب المنتقد لها، مثل الفعائل الغربية في يوغوسلافيا السابقة، أفغانستان، العراق، بحيث بدا منطق الرئيس الأمريكي حيال المشهد القوقازي، المتمثل في قوله، أن ما فعلته روسيا "لا يتماشى مع مبادئ المؤسسات الدولية" أمر يبعث على التفكه و التندّر.

التعليقات