31/10/2010 - 11:02

تصنيع سياسة لبنان "ما بعد الوطني"../ خليل أحمد خليل*

تصنيع سياسة لبنان
بدعوى عودة الوطني او البحث التوافقي، التشاركي/التعاركي معا، نجدنا اليوم أمام ظاهرة لبنان "ما بعد الوطني". أي أمام أطروحة كولونيالية/ امبريالية قوامها اعتبار بلدان العالم الثالث، العربي وغير العـربي، المسلم وغير المسلم، أسواقا أو ساحات لاقتصاد صناعي عنوانه العالم ـ السوق. يقصد بـ "ما بعد الوطني" في الظاهرة اللبنانية، مرحلتان من تصنيع سياسة هذا البلد: مرحلة التصنيع الكولونيالي لسياسة الطائفية التقليدية ما بين 1914 و1976، ومرحلة التصنيع الامبريالي، بتورية عالمية ونيوليبرالية، لسياسة الطائفية الجديدة ما بين 1989 و2008. في المرحلتين كانت الطائفية سياسة استعمارية تقسيمية، تنذر حاليا بإحلال الطائفي محل الوطني، وتدعي عولمة المحلي (noitasilacoloG) أي جعل المحلي يخرج من إطاره الوطني كمتحد اجتماعي في حضن دولة، للتماهي مع أقلمة متصلة، وظيفيا، بعولمة تقودها الآن دولة ـ أمة أو شركة مدولنة، عنوانها الولايات المتحدة وشريكها ما بعد الكولونيالي ـ الاتحاد الأوروبي وبعض دول شرق آسيا، وإسرائيل.

في هذه "العولمة" للمحلي اللبناني، برزت أقلمة مؤيدة للمشروع السياسي هذا، كما برزت أقلمة مناهضة، ارتدت هذه المرة رداء وطنيا ـ دينيا. الوظيفة الأولى لتصنيع السياسة في لبنان "ما بعد الوطني" هي تنحية الدولة عن وظيفتها التقريرية وإصدار القرارات بالنيابة عنها (قرارات دولية، محكمة دولية أو ذات صفة دولية، اتفاقات إقليمية ـ دولية، من الطائف إلى الدوحة، لجعل المحلي النيوطائفي يعمل بأحكام وإرادات لم يعد ينتجها المتحد الوطني).

أما الوظيفة الثانية لهذا التصنيع "للسياسة الجاهزة"، على غرار الأكل الجاهز بعد "عولمة" المطبخ اللبناني التقليدي أي الوطني، فهي تشغيل الإعلام، لاسيما إعلام التواصل السياسي، كصانع لجمهور مسيّس وموجه بحيث تحل التلفزة، مثلا، محل الجمهور الوطني، المحلل إلى مساحات محلية بلون طوائفها، ويحل الإعلام التبشيري والذرائعي محل الثقافة السياسية الوطنية، وأخيرا تحل البلوتوقراطية ـ ديمقراطية الأثرياء ـ محل الديمقراطية الوطنية، ديمقراطية المواطنين الفقراء الذين لم تعد الانتخابات مثلا مناسبة للإفصاح عن رأيهم، بل مناسبة لفصاحة المصارف والشركات السياسية وما يرتبط بها من وسائل إعلامية خاصة، فصاحة الخاطبين السياسيين لجمهور منقسم ومنعزل في معسكرات "نيوطائفية".

لكن هل يتعولم او يتأقلم هذا المحلي؟
في النظر إلى النتائج السوسيولجية نكتشف عقم الايديولوجي الطائفي والنيوطائفي، الذي صار أسطورة أو خرافة انثروبولوجية، يراد تقديمها وتوليمها لجماعات متفرقة ومتقاطعة معا، كواقعة اجتماعية ـ حيث استحوذ أشخاص محدودون على مجالات طوائف"هم" ـ كأن الطوائف ممتلكات شخصية، لا محركات لمجتمع/ وطن أو دولة/ أمة تبحث عن وحدتها كمقتضى، إجرائي لسيادتها الفعلية، لا الشكلية أو القانونية، "الدولية" هذه المرة ـ لا كحقيقة تاريخية، بل كحقيقة اعتقادية، سياسة مزيفة.

في قراءة ناقدة لتصنيع سياسة لبنان "ما بعد الوطني" نكتشف بغرابة "وطنية" السياسيين الذين "يحاربون" المستعمرين الجدد بسلاح قديم هم الذين اصطنعوه. فالسياسة الطائفية هي صناعة استعمارية دائمة وبامتياز، والترويج لها إعلاميا بفتوى أن الإعلام الموجه هو أيضا ثقافة "وطنية" يدل سياسيين في لبنان يستبدلون فصاحاتهم المتلفزة من شراكاتهم الحية مع جمهور كان يرفعهم أو يخفضهم، معتمدين على توسل "ما بعد الوطني" إعلاميا، وتوسل التقسيم الطائفي كمدخل إلى تقاسم السلطة.

هذه الآلية السياسية الحادة تكشف مجددا عمق التحول الطارئ على الظاهرة اللبنانية. وتُحيلنا مرة أخرى إلى استيعاء المواطنية اللفظية التي حلت مكان المواطنية الملموسة، مواطنية الناس كما هم في متحداتهم الاجتماعية، وفي مجالاتهم المعيشية، الاقتصادية والمعرفية والثقافية والسياسية. إن إغراق اللبنانيين في مستنقعات "عولمة المحلي" جعلتهم يستوطنون طوائفهم بقدر ما تحول عندهم الشعور الوطني إلى غريزة طائفية.

والحال، شهد لبنان هذا، منذ ،٢٠٠٥ انزلاقا نحو المحلي المؤقلم والمعولم معا، كما شهد انحرافا معياريا لطبقته السياسية، الخالية بنيويا من أحزاب الجماهير الوطنية ونقاباتها ومؤسساتها المعبرة عن مصالحها هي، لا عن مصالح "محركي أفلام" الطائفيات المسيسة. من هذا المنظار السوسيولوجي نرى أن الميثولوجي السياسي قد غطى على العقلانية السياسية التي كان رواد الوطنية العلمانية ـ مثل أنطون سعادة وأنطوان ثابت وكمال جنبلاط... ـ يريدون إضفاءها على شرعنة التمثيل والحكم، وذهب بلبنان وباللبنانيين إلى مجال "ما بعد الوطني" السياسي حيث اتخذ الطائفي لنفسه حق الادعاء "الوطني" كل الوطني، باستبعاد تام للثلث العلماني الذي لا يمكن تمثيله إلا بالنسبية الانتخابية. وعليه، منذ 2005 حتى اليوم، جرى تسويد "النسبية الطائفية" على النسبية الوطنية، بطمس الشيعية الثالثة عبر محدلة نصر الله ـ بري، والدرزية الثالثة عبر محدلة جنبلاط ـ أرسلان التي ستعود للعمل على ما يبدو في انتخابات 2009 درءا لخطر التغير النسبي، والسنية الثالثة، وأيضا وخصوصا المسيحية الثالثة، الخ.

هذا الدرء لخطر "الوطني الثالث" يجعل ما بعد الوطني، المصنع خارجيا والموظف داخليا، أساسا غير صالح لتهمة "الوحدة الوطنية" التي يُحكى بفصاحة ركيكة عن تجليـها في التوافقات المريرة، من انتخاب رئيس جمهورية بلا كتلة سياسية عضوية، إلى استنخاب ذاتي لرئيس حكومة بزعامة مستعارة، إلى تشكيل حكومة ثلاثينية ـ فيها ثمانية وزراء دولة، كان يمكن تلافيهم والتخفيف الضريبي عن كاهل المكلفين اللبنانيين الذين يحتاجون إلى سياسة اقتصادية عادلة ومساواتية أكثر مما يحتاجون إلى المزيد من النواب والوزراء والموظفين بلا وظائف ـ ذات بيان وزاري "بزاري" كما وصفه أحد برامج التسلية السياسية في إعلام يدعي انه "نيو ثقافة".

المفيد من وراء هذه "العجقة التلـفزيونية" هو أن "ما بعد الوطني" هو المجال الميتولوجي المتحقق إعلاميا، المناقض تماما للمجال السوسيولوجي الوطني اللبناني، والمنــخدع بذاته تمهيدا لـ "خداعنا"، مثلا، بدعوى "كنف دولة" مقابل "كنف مقاومة". فما بعد الوطني يحيل إلى ما بعد لبنان، إلى ما بعد الدولة وبالأخص إلى "ما بعد المقاومة".

جاءت الإحالة الأولى، مثلا، إلى قانون القضاء الطائفي اللاديموقراطي ـ بسبب لا نسبيته الاجتماعية ـ للعام 1960.ثم جاءت الإحالة الثانية إلى المحافظة النيوطائفية ولو على حساب تجاهل الواقعة الاقتصادية المريرة التي لم يأت على ذكرها محاربو الطائفية المتحاورون. ما بعد الوطني يحيل بنحو أخص إلى استحالة قيام دولة وطنية في سوق سياسية بلا محرك اقتصادي محلي، فالوطن ـ السوق، مثل العالم ـ السوق، ينتج اقتصادا ريعيا، ربحيا، وهيمنة بلوتوقراطية عابرة للطوائف هنا، وللأمم ـ الدول هناك في العالم الثالث طبعا، ولكنه لا ينتج اقتصادا وطنيا حقيقيا لمواطنين اجتماعيين، لا يجدون أمامهم سوى "سحرة التلفزة" السياسيين، وكلاما عن سياسة مستعارة، باقتصاد مستعار، بإعلام مستعار، رغم وجود سياسيين وطنيين واقتصـاديين وإعلاميين ملتزمين لم تبهرهم بعد الشاشات التي تصنّع الكذب اليومي للسياسة النيوطائفية، الذي انتقده الكثيرون من مثقفي لبنان الوطني، الديموقراطي العلمــاني، وما زال بحاجة إلى مزيد من النقد العلمي الصريح.

ثمة جيل من سحرة النيوطائفية سينفرض في انتخابات 2009 وما بعدها، ومعه سيرحل "ما بعد الوطني" إلى أصله "ما بعد الكولونيالي" الذي اتخذته "العولمة الأميركية" شماعة لحروبها القذرة. ما يحدث في لبنان اليوم وغدا سيـكون مؤشرا لنهاية التصنيع السياسي المجهز خارج الوطن، ومؤشرا لبداية التصنيع الوطــني للســياسة، بلا أقلمة، بلا دولنة أو عولمة. بشرط أن يتعلمن المحلي، أن يتعلم علم السياسة، لا شعوذة الأسواق السياسية التي تقودها شركات الحروب، وفي مقدمتها الشركة الإسرائيلية محليا.
"السفير"

التعليقات