31/10/2010 - 11:02

ثقافتنا وثقافتهم../ فيصل جلول

ثقافتنا وثقافتهم../ فيصل جلول
يسود في أوروبا والغرب عموماً اعتقاد راسخ بأن العرب والمسلمين مقيمون على التعصب ورفض الآخر المختلف. ويشيع بعض المفكرين والساسة الغربيين أن الحضارة العربية الإسلامية تنطوي بنيوياً على نزعات عدوانية ترجح صراع الحضارات بدلاً من تثاقفها وتعايشها في إطار سلمي اندماجي في عالم مستقر.

ويفسر هذا البعض تلك النزعات بـ “عدوانية الثقافة العربية الإسلامية”، ويزعمون أن القيم الغربية “المتسامحة” يجب أن تشق طريقها الى ثقافتنا، وذلك يتم عبر تبني النظام الديمقراطي وإشاعة الحريات والعمل بمنظومة حقوق الإنسان، حينئذ ينطلق حوار الحضارات من قيم مشتركة هي في التحليل النهائي قيم الغرب وقاعدة تفكيره.

ولا يعتني هؤلاء بالسؤال البديهي الذي يطرح نفسه في هذه الحال عن جدوى الحوار بين الحضارات عندما تصبح قيم إحداها شرطاً للحوار. فهل يحاور المنتمون الى قيم واحدة بعضهم بعضاً ومن أجل ماذا يتحاورون؟ أليس الحوار وسيلة لجمع أطراف ينتمون الى ثقافات وقيم مختلفة؟ ألا ينبغي التقريب بين متباعدين أو متنافسين أو متصارعين من أجل العثور على أرضية تعايش سلمية مشتركة؟

لكن ماذا لو بحثنا عن ظواهر التعصب في الثقافتين الغربية من جهة والعربية الإسلامية من جهة أخرى، فهل تقتصر على العرب حصراً أم أنها مبثوثة في يوميات الأوروبيين وفي ثقافتهم حيث تنتشر ظواهر العنصرية والتعصب وكره الأجانب والغطرسة ونزعة السيطرة المطلقة والتعالي والشعور أحياناً بالتفوق الإثني.. الخ.

ولعل بعض الظواهر، إن لم يمكن معظمها، لا مثيل لها عند العرب والمسلمين وهي معروفة ومتداولة على نطاق واسع ما خلا أقلها ويتصل بثقافة المائدة وهذا القليل جدير بالتظهير والتفسير.

تنتشر في أوروبا والغرب عموماً مجموعة من المعجنات والحلويات تنسب في أصلها الى فيينا وتعرف بالفرنسية باسم “فيينوازري”، ولعل أشهرها عربياً وعالمياً معجنات ال “كرواسان”، ولهذا الاسم قصة جديرة بأن تروى. الكلمة تعني “الهلال” بالعربية فلماذا إذن يأكل الأوروبي (والعربي أيضاً!) هلال المسلمين مع فطور الصباح؟ يقودنا البحث عن الجواب في الإضبارات الأوروبية الى فرضيات عدة أشهرها أن الجيش العثماني حاصر فيينا عام 1683 وأخفق في اقتحامها لأن الخبازين الذين يعملون ليلاً أخطروا حامية المدينة باستمرار العمل، فكان أن أخفق الغزو التركي وسمح للخبازين بتكريس الانتصار النمساوي بتحضير “هورنشين” بالألمانية على هيئة هلال يؤكل يومياً افتخارًا بهزيمة المسلمين الأتراك.

وتفيد رواية أخرى أن صاحب مقهى نمساوي عثر على أكياس من القهوة التركية في موقع أخلاه الأتراك بعد انسحابهم، وقرر أن يحضر معجنات ترمز الى الهلال وتؤكل مع القهوة افتخارًا باندحار العثمانيين.

وتشير رواية ثالثة الى أن الواقعة حدثت في “بودابست” عاصمة هنغاريا، وكانت ركناً في الإمبراطورية النمساوية الهنغارية في حينه. وتفيد رواية رابعة بأن ال “كرواسان” انتقلت الى فرنسا في العام 1770 وقد حملتها معها الملكة ماري انطوانيت النمساوية الأصل الى العرش الفرنسي حين اقترنت بالملك لويس السادس عشر.

وعلى الرغم من اختلافها، فإن الروايات المذكورة تحمل المعنى نفسه، أي استهلاك الرمز الديني للمسلمين يومياً مع فطور الصباح وذلك من دون أن يرد المسلمون في أية فترة من تاريخهم على هذا التقليد بتحضير أطباق تمثل الرموز الدينية للمسيحيين واليهود.

بيد أن ال “كرواسان” ليست ظاهرة يتيمة في ثقافة المائدة الأوروبية، فهناك العديد من الظواهر من بينها حلوى “رأس العبد” والاسم ليس عربياً، كما يبدو للوهلة الأولى، فهو ترجمة حرفية للاسم الفرنسي “تيت دو نيغر”، وهناك أيضاً حلوى “ الكونغولي” وهي ليست معروفة بالعربية وتباع في المخابز، وهناك أيضاً وأيضاً حلوى “الراهبة” وهي مؤلفة من طبقتين الأولى تمثل رأس الراهبة، والثانية ثوبها وجسدها. ومن المعروف أن الثورة الفرنسية البرجوازية اصطدمت بالكنيسة وتعرضت للرهبنة وأرست علمانية هي الأقوى في أوروبا والغرب.

ولعل دواعي الإنصاف تستدعي الإشارة الى أن السلطات الفرنسية حظرت رسمياً منذ عشر سنوات استخدام تسمية “رأس العبد” من دون أن تحظر تصنيع الحلوى نفسها لأن الاسم يتسبب بصدمة حقيقية في مناخ عنصري انتشر في البلاد على نطاق واسع مع صعود اليمين المتطرف أواخر تسعينات القرن الماضي، خصوصاً أن ملايين الفرنسيين الملونين لم يكونوا قادرين على تحمل هذه الظاهرة التي تذكر بعصور العبودية وتجارة العبيد في بلد تتصدر واجهات مبانيه الرسمية ثلاثية الحرية والإخاء والمساواة بين البشر، ويحتفظ بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان بغض النظر عن لونه وعرقه وجنسه. لكن حلوى “رأس العبد” لاتزال متداولة وهي تشير رغم حظر اسمها الى “العبد” نفسه في لاوعي المستهلكين، بل ما زلنا نحن العرب نستهلك هذه الحلوى المستوردة ونسميها لسذاجتنا وخفتنا بالاسم الذي ألغي في بلد المنشأ.

لكن ماذا عن ثقافة المائدة عندنا؟ وهل تنطوي على ظواهر مشابهة؟ ما من شك بأن حلوياتنا المتداولة شأن: “أم علي” المصرية و”بنت الصحن” اليمنية و”البقلاوة” الشامية و”كعب الغزال” المغربية و”الشباكيات” و”البرازق” و”النوغا” و”الشعيبيات” و”زنود الست” و”الحلاوة” و”غزل البنات” و”الكنافة” وغيرها لا تنطوي على معان سياسية أو عرقية أو دينية مناهضة للآخر الغربي وغيره من الحضارات التي تعايشنا معها بعد انتصارات وحروب ربحناها وسدنا خلالها أكثر من نصف العالم.

يفيد ما سبق بأن قيم التسامح والتعايش السلمي والاندماج الحضاري ليست “ماركة” غربية، وليست عناصر أساسية في بنية الثقافة الغربية. بالمقابل لا تستحق ثقافتنا نعوت التطرف (الحقد والتعصب والعنصرية) بل ربما يحتاج الآخرون الى الاسترشاد بإرثنا في التسامح والاعتراف بحق الاختلاف.
"الخليج"

التعليقات