31/10/2010 - 11:02

حتى متى نظل موضوعاً وليس طرفاً؟../ جميل مطر*

حتى متى نظل موضوعاً وليس طرفاً؟../ جميل مطر*
بات واضحاً أن الإعداد للحرب الباردة الجديدة استغرق من الجانب الروسي وقتاً أطول مما يقدر كثيرون، ونعرف أن بوادر القلق في روسيا ظهرت منذ مدة غير قصيرة. ونعرف الآن أن الانتقال من المواجهة الكلامية والدبلوماسية إلى خطوات وإجراءات على الأرض ربما بدأ في شهر يوليو/تموز الماضي أي قبل اشتعال أزمة جورجيا. ففي هذا الشهر أجرى هوجو شافيز محادثات في روسيا انتهت بعقد اتفاق لتوريد سلاح روسي إلى فنزويلا بما قيمته أربعة مليارات من الدولارات، وهو مبلغ ضخم بالقياس إلى حاجة فنزويلا الفعلية وقدرتها على استيعاب هذا الحجم من السلاح. كذلك تقرر في هذه الزيارة توجيه الدعوة إلى سلاح الطيران الروسي ليرسل قاذفتين بعيدتي المدى من طراز Tu 160 لزيارة فنزويلا وقضاء بعض الوقت في مطار بشمال البلاد. من ناحية ثالثة جرى الاتفاق على إجراء مناورات بحرية مشتركة بين سفن حربية روسية.

بمعنى آخر، قررت حكومة موسكو في تموز/يوليو الماضي تصعيد المواجهة والانتقال في إدارتها إلى أساليب الحرب الباردة. وسيكون صعباً في المستقبل تحديد مسؤولية البادئ بالمواجهة، إذ كان منطقياً وقد خرجت الولايات المتحدة منتصرة في الحرب الباردة الأولى أن تحاول جني أكبر عدد ممكن من المكاسب وتحقيق أقصى حجم ممكن من المصالح الأمريكية، فتدخلت في الشؤون الروسية الداخلية دبلوماسياً واقتصادياً واستخباراتياً، وتدخلت في شؤون الجوار القريب وصار لها نفوذ في دول هذا الجوار يكاد من فرط كثافته يعلن عن حقيقة أنه حالة حصار جديد مفروض على روسيا.

وفي الوقت نفسه كان منطقياً أن تتمرد المؤسسات “الوطنية” في روسيا على الأوضاع التي انحدرت إليها البلاد ويخرج جهاز أو رجل في جهاز ليتولى استعارة عناصر متبقية من القوة، بما يسمح بوقف تمدد الحصار الأمريكي واستعادة نفوذ روسي قديم في مناطق الجوار كلها أو بعضها على الأقل. كان منطقياً السلوك الأمريكي في أعقاب النصر، وكان منطقياً السلوك الروسي في أعقاب التقاط الوعي من وحل الهزيمة.

غير المنطقي في هذه التطورات أن يقرر الطرفان انتهاج سلوكيات المواجهة ثم تصعيدها إلى درجة تجعلنا نتصور أن الطرفين يعتبران أن الحرب الباردة الأولى لم تنته نهاية حاسمة. وأن السنوات العشرين الأخيرة لم تكن سوى مرحلة انتقالية وهدنة بين جولتين في الحرب، أو لنتصور أن الطرفين قررا إشعال حرب باردة ثانية، طرف يريد هذه المرة حرباً تنتهي نهاية حاسمة، وطرف قد لا يحلم بنهاية حاسمة لمصلحته ولكن يحلم على الأقل بنهاية للمهانة والانتقام من سنوات الإذلال والتدخل الغربي في شؤون روسيا.

ما كان لحكومة موسكو، بقيادة بوتين، أن تقدم على عقد اتفاقات عسكرية مع دولة تطل على الكاريبي، أي على “مياه أمريكية” إلا إذا كان قرار التصعيد إلى مستوى عال من الحرب الباردة قد اتخذ فعلاً. لذلك قابلتنا عند التحليل صعوبة عدم الربط بين قرار غزو جورجيا من ناحية وقرار تسليح فنزويلا وإجراء مناورات بحرية معها وزيارة القاذفتين لها من ناحية أخرى، فالقراران يقعان ضمن إطار واحد وسياسة مقررة سلفاً تقضي بتصعيد التصدي للحصار الأمريكي إن استدعى الأمر ذلك.

وأظن أن ما جرى، في أمريكا اللاتينية خلال الأيام القليلة الماضية، ما هو إلا البداية لمرحلة جديدة تقوم على نمط، عرفناه منذ عقود، في سلوك دول العالم الثالث. عرفناه نمطاً معادياً بدرجة كبيرة. ما أن تبدأ دولة في انتهاجه إلا وسارعت دول أخرى ولأسباب متباينة في انتهاجه.

حدث بعد يوليو/تموز، أي بعد اتفاق التعاون العسكري بين روسيا وفنزويلا أن توصل الروس والسوريون إلى تفاهم حول تأهيل ميناء طرطوس لاستقبال سفن حربية روسية. وقد كانت سوريا ومازالت فيما أعتقد، الكرة البلورية التي تعكس جانباً من جوانب المستقبل في عدد من جوانب الصراع الدولي وتكشف عن بعض أسرار التفاعلات التي تحدث على قمة العالم، أي بين الأقطاب.

أتصور أن طرفي الحرب الباردة الجديدة مع أطراف أخرى تجري في فلكيها، عادت جميعاً إلى سوريا لتختبر فيها ما دخل من تحولات على توازن القوى الدولي منذ آخر مرة كانت سوريا فيها مسرحاً لاختبار مماثل.

وكالعهد بسوريا وبمنطقة الشام على اتساعها سينعكس الاهتمام بها والتكالب على نفوذ فيها وتصعيد الاختبارات الجارية في ساحتها سلباً أو إيجاباً على الشرق الأوسط بأسره، وعلى مصر خاصة حتى لو انتحت جانباً أو استمرت تركز اهتمامها على تطورات قصيرة الأجل وتهمل تطورات تحفر في أرض المنطقة وستخلف في الغالب آثاراً غائرة.

ومن ثنايا التصعيد في المواجهة بين روسيا والغرب يشتعل الغضب مجدداً في أمريكا الجنوبية، الفناء الخلفي للولايات المتحدة. كتب أحد الأمريكيين مقالاً جيداً يلفت فيه النظر إلى برود السلوك الأمريكي في التعامل مع الاختراق الروسي لأمريكا الجنوبية مقارناً بحرارة السلوك الروسي في التعامل مع جورجيا وسخونة خطاب موسكو الموجه إلى أوكرانيا والأقليات غير الروسية في روسيا.

كان بالفعل بارداً تصريح المسؤول الأمريكي الذي عقب به على أخبار إجراء مناورات عسكرية مشتركة بين قوات بحرية روسية وفنزويلية في مياه الكاريبي. تساءل المسؤول بسخرية إن كانت لدى روسيا سفن حربية صالحة للوصول إلى مياه فنزويلا، ملمحاً بطبيعة الحال إلى أن البحرية السوفييتية كانت خلال الحرب الباردة الأولى قادرة على الوصول إلى الكاريبي وإقامة منصات صواريخ في كوبا تهدد منها الولايات المتحدة، بينما تعاني القوات المسلحة الروسية في الوقت الراهن من عجز في المعدات والقيادة.

إلا أن حكومة واشنطن التي تعمدت أن تبدو هادئة في وجه التحدي الروسي لم تكن هادئة في وجه تحديات من جانب إيفو موراليس رئيس بوليفيا الذي طرد السفير الأمريكي واعتبره شخصاً غير مرغوب فيه، ومن جانب رئيسة الأرجنتين التي اعترفت باستقلال الإقليمين الانفصاليين في جورجيا كاحتجاج أرجنتيني على المحكمة التي نصبت في ولاية فلوريدا لمحاكمتها مع هوجو شافيز.

كذلك لم يكن رد أمريكا هادئاً في وجه حكومة نيكاراغوا التي تضامنت مع بوليفيا ضد التأييد الأمريكي القوي للانفصاليين في شرق بوليفيا.

في الإكوادور أيضاً غضب شعبي، وفي البرازيل والأورجواي قلق وتوتر بسبب التدخل الأمريكي المتصاعد ضد حكومتي بوليفيا وفنزويلا، وبسبب التهديد الأمريكي المبطن بأن الإقليم بأسره يتعرض لعواقب خطيرة إذا استمرت حكومة بوليفيا في السلطة.

من ناحية أخرى امتد القلق إلى دوائر في الولايات المتحدة، فقد طلب مثلاً مركز بحوث السياسات والاقتصاد في واشنطن من الحكومة الأمريكية وخصوصاً وكالة التنمية الدولية ومؤسسات دعم الديمقراطية الكشف عن قوائم الجهات البوليفية التي تلقت أموالاً من أجل القيام بمظاهرات ضد موراليس والاستعداد لحرب أهلية تنتهي بانفصال أقاليم إنتاج النفط والغاز في شرق البلاد.

أعتقد، وبدرجة عالية من الثقة، أن المواجهة الناشبة بين روسيا والولايات المتحدة ستستمر متصاعدة، على الأقل إلى حين تولي الرئيس الجديد الحكم في واشنطن، وعلى الأكثر لسنوات أربع مقبلة إذا فاز جون ماكين في الانتخابات، أو وهو الأغلب، إذا تواصل صعود الصين وامتداد نفوذها في الشرق الأوسط وتعاظمت جهود كافة الأطراف ومنها أطراف إقليمية كإيران وتركيا و”إسرائيل” للاستفادة من التوتر الدولي في إعادة رسم خرائط كثيرة في المنطقة. وفي كل الأحوال يبقى السؤال: هل سنكون، كما كنا دائماً منذ قرون، مجالاً حيوياً لكل طرف من الأطراف المتصارعة والمتسابقة..؟ أم أن تغييراً حانت ساعته سوف يحدث في أقطارنا وسلوكياتنا ومعنوياتنا يؤهلنا لنكون أطرافاً فاعلين ومشاركين في صنع المستقبل، مستقبلنا ومستقبلهم؟
"الخليج"

التعليقات