31/10/2010 - 11:02

حقائق أنكرها العرب وأقرّها "فينوغراد"../ د.عصام نعمان*

حقائق أنكرها العرب وأقرّها
تقرير فينوغراد لا يخصّ “إسرائيل” وحدها. إنه يخصّ العرب أيضاً. فهي في حربها الثانية على لبنان صيف العام 2006 كانت، شأن حروبها الخمس السابقة لها، في حرب مع العرب، كلهم أو بعضهم. من هنا تنبع أهمية التقرير الذي لم يكشف ثغراً ونواقص وتقصيراً وضعفاً في بنية “إسرائيل” وأداء مستوييها السياسي والعسكري فحسب، بل كشف أيضا إنكاراً فاضحاً لحقائق ارتكبها العرب، لاسيما المسؤولين فيهم، أثناءها وفي أعقابها.

أبرز الحقائق التي أنكرها بعض العرب، وفي مقدمهم المسؤولون اللبنانيون من أركان الطبقة السياسية القابضة، خمس:

أولى الحقائق، اعتراف “إسرائيل”، عبر لجنة فينوغراد الرسمية، بهزيمتها في الحرب. صحيح أن اللجنة توخّت حفظ ماء الوجه فاختارت المواربة في التوصيف باستعمالها عبارة “لم ننتصر”، لكنها استدركت للتوّ بالقول إن الإخفاق ولّد “شعوراً بالانكسار والخيبة لدى الجمهور “الإسرائيلي””. غير أن آخرين، من سياسيين وإعلاميين، لم يتوانوا عن توصيف التقرير في مضمونه وآثاره بأنه “هزة أرضية”. فالهزيمة تُحدث هزة أرضية ربما أكثر من الانتصار.

هذا الإقرار بالهزيمة يأتي للمرة الأولى بعد ستين عاماً على قيام “إسرائيل” وانتصارها على العرب مجتمعين. ومع ذلك فإن بعض العرب الحاكمين، لا المحكومين، أنكروا على العرب المقاومين، أي على المقاومة اللبنانية، انتصارها، بل إن بعضهم، لاسيما المسؤولين اللبنانيين، جزموا بأن المقاومة هُزمت في الحرب وأن لبنان خسرها تالياً بسبب الدمار الكبير الذي لحق بعمرانه والخسارة البشرية التي لحقت بإنسانه. لقد تناسوا حقيقة ساطعة ان المنتصر، كما المنهزم، يخسر بشراً وحجراً وشجراً في الحرب، لكن معيار النصر ليس مادياً بقدر ما هو سياسي، وان ذلك يتجلّى في انكسار إرادة المهزوم أو في عجزه عن تحقيق أهدافه من وراء شنّ الحرب، أو في الاثنين معاً. والحال أن “إسرائيل” عجزت، بإقرارٍ من لجنة فينوغراد، عن تحقيق ما هدفت إليه وأن المقاومة صمدت وصدت العدوان بكفاءة نادرة وأنها انتصرت في صراع الإرادات.

ثانية الحقائق، ثبوت مبادرة “إسرائيل” إلى شنّ الحرب على المقاومة ولبنان. فاللجنة الرسمية أقرّت بأن ““إسرائيل” خرجت إلى حرب طويلة بادرت هي إليها”، وليس المقاومة كما حاول بعض أركان النظام العربي الرسمي ان يلقي في روع الناس. ولعل ابرز الجهات في ارتكاب هذه الخطيئة حكومة فؤاد السنيورة التي سارعت بعد ساعات قليلة على قيام المقاومة بأسر جنديين “إسرائيليين” على مقربة من الخط الأزرق وهو ليس حدوداً سياسية معترفاً بها ومباشرة “إسرائيل” للتوّ هجوماً شاملاً على لبنان، براً وجواً وبحراً، إلى التنصل من أية مسؤولية لها عمّا قامت به المقاومة، وأن ليس لها علم مسبق بها، مع اتهام ضمني، سرعان ما أصبح علنياً، بأن المقاومة تُمسك، بدلاً من الدولة، بقرار الحرب والسلم! وفي غضون ساعات أيضاً كان البعض يصف عملية المقاومة بأنها “مغامرة غير محسوبة”، وأنها وفرت للعدو ذريعةً لشنّ الحرب على لبنان. ترى، ماذا سيقول هؤلاء بعد أن أقرّت لجنة فينوغراد بأن “إسرائيل” “خرجت إلى حرب طويلة بادرت هي إليها”؟

ثالثة الحقائق، إقرارُ لجنة فينوغراد بالأضرار الفادحة، البشرية والنفسية والمادية، التي ألحقتها صواريخ المقاومة في الجبهة الداخلية “الإسرائيلية”. ذلك أن المقاومة تمكّنت، لأول مرة في تاريخ الحروب العربية “الإسرائيلية”، من نقل الحرب إلى أرض العدو، وبالتالي تأمين “استمرار إطلاق الصواريخ على الجبهة الداخلية من دون توقف لغاية وقف النار”. هذا فضلاً عن الآف العائلات “الإسرائيلية” التي نزحت عن منطقة الجليل إلى مناطق أكثر أمناً، والآف العائلات التي اضطرت إلى المكوث في الملاجئ طيلة فترة الحرب. هذه الحقيقة أنكرها بعض العرب أو تجاهلوها، لاسيما المسؤولون اللبنانيون، الذين حرصوا على تذكير مواطنيهم كما الغير، بالدمار والأضرار الفادحة التي لحقت بلبنان جرّاء تفرّد المقاومة باتخاذ قرار الحرب بمعزل عن الحكومة. إن لهذه الحقيقة، حقيقة الأضرار البالغة التي لحقت ب “إسرائيل” بفعل المقاومة، دلالة بالغة الأهمية، إذ أدركت قيادات الكيان الصهيوني أنه لن يكون في وسعها، بعد اتضاح حقائق حرب يوليو/ تموز، أن تفلت من العقاب والأضرار الفادحة، لاسيما عقب ثبوت اقتدار المقاومة وقدرتها على نقل الحرب إلى عمق الكيان الصهيوني. ذلك سيحدّ بالتأكيد من قدرة “إسرائيل” على المناورة وسيجعلها تفكر مرتين قبل أن تقرر شنّ الحرب على لبنان مرة أخرى.

رابعة الحقائق، إقرار لجنة فينوغراد أن حرب تموز كانت خياراً سياسياً اعتمدته “إسرائيل” وأعدّت له من أجل تحقيق أغراض محددة. ففي معرض نقدها للمستويين السياسي والعسكري أقرت اللجنة بأن “أهداف الخطوة العسكرية كانت مشروعة ولم يتمّ استنفادها في محاولة تسريع التسوية السياسية أو تحسينها”. وإذ أقرّت اللجنة أيضاً باعتماد الحرب كوسيلة لتحقيق أغراض سياسية، نراها أكدت “مشروعية” هذا الخيار وبالتالي القرار بتوضيح الغاية من اتخاذه: “أهداف الخطوة البرية كانت مشروعة، ولم يكن هناك فشل في الخروج لهذه العملية ذاتها إذ وفرت لحكومة “إسرائيل” مرونةً عسكرية وسياسية ضرورية (...) فقد كانت لحرب لبنان الثانية إنجازات سياسية فعلية: إقرار مجلس الأمن القرار 1701”... هكذا يتضح أنه كان لحكومة إيهود أولمرت هدف محدد من وراء شن الحرب هو إنشاء وضع سياسي وعسكري في جنوب لبنان مغاير للوضع الذي كان سائداً. تقرير فينوغراد لم يقل إن تحقيق هذا الهدف يتطلب ضرب المقاومة وتجريدها من السلاح، لكن خوض الحرب في مسرح عمليات واسع يتعدى جنوب لبنان يثبت وجود هذا الهدف في مخطط الحرب. مهما يكن من أمر، فإن مجرد إقرار اللجنة بخيار الحرب ومشروعيتها كوسيلة لتحقيق أغراض سياسية كاف بحد ذاته لترسيخ فهم استراتيجي لمخططات “إسرائيل” مفاده احتمال غالب بعودتها إلى الحرب، عاجلاً أو آجلاً، ضد لبنان وسوريا أو غيرهما من الدول التي تصنّفها عدوة لها.

خامسة الحقائق، وأهمها ثبوت جدوى المقاومة وفعاليتها رغم عدم التكافؤ العسكري بين العرب و”إسرائيل”. فلبنان، دولةً ومجتمعاً وجيشاً ومقاومةً، أضعف من الكيان الصهيوني، لاسيما على الصُعُد الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية. ومع ذلك فإن رسوخ إرادة القتال لدى مقاومته الباسلة، وتنظيمها، وجهوزيتها كانت عوامل كافية، بل حاسمة لإنتاج حقيقة استراتيجية وازنة هي أرجحية صراع الإرادات وتقدّمها على ميزان القوى العسكرية في الحروب الشعبية. ولعل الدرس الأول المستفاد من حرب تموز أنه أصبح في مقدور تنظيمات المقاومة الشعبية الجدية والجادة، بالتعاون مع الحكومات العربية الملتزمة مواجهة “إسرائيل” كقوة توسعية معادية ومتحالفة مع الولايات المتحدة، أن تخوض صراعاً طويلاً ضدها وأن تدحرها وتنتصر عليها.

متى يتوقف العرب عن إنكار هذه الحقائق الساطعة ويستوعبون دروسها؟
"الخليج"

التعليقات