31/10/2010 - 11:02

“ريكاردو” ملهماً للسوق الوحشية../ فيصل جلول

“ريكاردو” ملهماً للسوق الوحشية../ فيصل جلول
يعتقد بعض المثقفين العرب مخطئين أن الرأسمالية لا منظرين لها بخلاف الشيوعية والاشتراكية. ذلك أن “آدم سميث” و”دافيد ريكاردو” و”مالتوس” هم من الأسماء اللامعة بل المؤسسة لاقتصاد السوق ولأفكار التبادل الحر في عصر الثورة الصناعية البورجوازية.

ولعل “كارل ماركس” كان السباق إلى الانتباه إلى أهمية المفكرين الثلاثة في بريطانيا وهو الذي بنى نظريته على خلاصة الاقتصاد السياسي الانجليزي والاشتراكية الفرنسية والفلسفة الكلاسيكية الألمانية، أي العلوم الثلاثة الأكثر تطوراً في أوروبا في القرن التاسع عشر.

ولا يحتاج المرء لأن يكون متخصصاً في الاقتصاد كي يقترب من أفكارهم بل ربما لا يفوت طلاب الثانوية العامة في بعض البلدان العربية الاطلاع بدافع الدراسة على مساهماتهم التأسيسية في التنظير للرأسمالية.

ومن بين الثلاثة ربما يمكن اعتبار “ريكادو” الأب الروحي للتبادل الحر، فقد استنتج بالاستناد إلى أعمال آدم سميث ومن خلال معاينته لحركة الأسواق أن كل الأمم لديها مصلحة مؤكدة في الانخراط في التجارة الدولية بما في ذلك الأمم الأقل قدرة على المنافسة شرط أن تتخصص في الإنتاج.

وشرح استنتاجه هذا عبر مقارنة بريطانيا بالبرتغال فكلاهما ينتج النبيذ والقماش. مثال: البرتغال تنتج عشرين متر قماش و300 ليتر نبيذ في ساعات عمل محددة، وبريطانيا تنتج في الساعات نفسها 10 أمتار قماش و100 ليتر نبيذ، وأوصى بأن تتخصص بريطانيا بإنتاج القماش لأنها يمكن أن تحصل مقابل 10 أمتار قماش على 150 ليتر نبيذ برتغالي، في حين أنها تحصل على 100 ليتر من النبيذ البريطاني مقابل أمتار القماش العشرة إذا ما انحصر تبادل النبيذ بالقماش في سوق بريطاني مغلق. في حين أن البرتغال تحصل بدورها على قماش أكثر مقابل النبيذ الذي تنتجه فيما لو تخصصت بإنتاج النبيذ وحده وانخرطت في التبادل الحر في سوق مشترك.

واعتبر ريكاردو أن التبادل الحر القائم على التخصص يؤدي إلى زيادة الإنتاج في البلدين وأن السوق الحر هو الذي يضمن سيرورة التبادل والمنافسة لصالح البلدين عبر تنظيم نفسه بنفسه. وما يصح على بريطانيا والبرتغال يصح على كل أمم العالم. والواضح أن نشوء السوق الرأسمالي العالمي هو من أثر نظرية “ريكاردو” الذي شدد على وجوب التخلي عن نظام الحماية، إذ يقيد المنافسة الحرة بقيود وطنية، هكذا كانت بريطانيا السباقة إلى إلغاء قوانين الحماية عام 1846 استناداً إلى تشخيصه وبعد أقل من ربع قرن على وفاته.

ما من شك أن حجم السوق الحر توسع ليشمل كل الكرة الأرضية وحطمت الرأسمالية كل القيود التي اعترضتها داخل وخارج بلدان المنشأ وما عاد أحد يجرؤ على مواجهة جبروتها وما عاد بوسع أحد أن ينظم إيقاعها، وبالتالي أن يحتمي من آثارها ما خلا فترة الحرب الباردة حيث شكل العالم الشيوعي قطبا كابحاً للرأسمالية وللتبادل الحر.

كانت صراعات الحرب الباردة تدور في أحد وجوهها بين أفكار “ريكاردو” من ناحية وأفكار “كارل ماركس” من ناحية أخرى، فقد اتفق ماركس مع ريكاردو على أن قوة العمل هي التي تصنع رأس المال، وعارضه في وجوب تمتع العمال بنتائج العمل وليس أصحاب الرساميل فكان أن أدت الحرب الباردة إلى نشوء سور عملاق بين عالمين وانتهت بانتصار “ريكاردو” على “ماركس” وبالتالي وصول التبادل الحر إلى أقاصي العالم وانتشار الرأسمالية على كامل مساحة المعمورة ومعها سيطرة الغرب ومن حالفه من الأمم القوية شأن اليابان وكوريا الجنوبية والبرازيل والصين وغيرها.

“سقوطنا سيكون هدية مسمومة لكم” بهذه العبارة خاطب الروس الولايات المتحدة الأمريكية عشية انهيار جدار برلين، ولعل الأزمة الراهنة التي تضرب اقتصاد السوق والتبادل الحر تعطي هذه النبوءة قدراً من المصداقية، ذلك أن الرأسمالية المنتشية بانتصارها على القلاع الشيوعية بقوتها الاقتصادية والأخلاقية صارت بلا منافس وبلا رادع فتخلصت من بعد تدريجياً من أثقالها الاخلاقية، وأطلقت العنان لنزعتها الوحشية ومعها صار العالم أشبه بغابة، مع فارق معتبر، ذلك أن عالم البهائم في الأدغال ينتظم في هرمية طبيعية وتوزان بيئي يتيح للوحوش التكاثر بقدر تكاثر الحيوانات غير المفترسة بل تحترم بعض الحيوانات المفترسة الطبيعة غريزياً فلا تصطاد إلا الحيوانات المريضة والمصابة أو الأقل قدرة على الدفاع عن نفسها، ولا تلتهم الوحوش بعضها البعض إلا في حالة واحدة حين يقع الجفاف ويندر الماء ويسود القحط وتموت القطعان فتبادر فصيلة الوحوش الأقوى إلى التهام الفصيلة الأقل قوة، وهكذا دواليك إلى أن يلتهم الأسد أشباله ويموت جوعاً.

وكما في الغابة حيث تصطاد الذئاب ما يفوق حاجتها للبقاء على قيد الحياة سارت الرساميل المتوحشة على رسم الذئاب، فأخذت تفترس طرائدها بلا حساب وبما يتخطى قوانين البشر والطبيعة (رواتب بعض مديري المصارف والشركات المالية تعادل الميزانيات السنوية للعديد من الدول الفقيرة) فكان أن التهمت ما تيسر لها في البلدان الضعيفة والفقيرة التي خضعت صاغرة لأوامر ووصفات “البنك الدولي” و”صندوق النقد الدولي”، ومن ثم انحسرت نحو البلدان الغنية لتلتهم القطاع العام ولتجد نفسها من بعد في مواجهة بعضها البعض تخوض منافسة انتحارية إذا ما قيض لها أن تستمر قد تهدد الرأسمالية نفسها بالفناء، وبالتالي تتيح للماركسيين أن يبتسموا ساخرين ثأراً لمعلمهم الذي أكد بأن الرأسمالية تحمل بذور زوالها في رحمها.. إلا إذا تمكن نيكولا ساركوزي من إصلاح الرأسمالية العالمية وهذا علمه عند الله وحده.
"الخليج"

التعليقات