31/10/2010 - 11:02

سنوات من الفوضى../ زكريا محمد

سنوات من الفوضى../ زكريا محمد
يستطيع المرء أن يتكهن بسنوات من الفوضى والاضطرابات في المنطقة. أو قل أن يتكهن بعقد كامل من هذا. فحتى تستقر التوازنات الجديدة التي أخذت تنشأ، وحتى تقتنع الأطراف المتراجعة والأطراف المتقدمة كل بدوره، لا بد من معارك واختبارات، ولا بد من بعث نيران تحت الرماد.

التوازنات الجديدة تنطلق من تطورات ثلاثة:

1- تراجع الدور الأميركي بعد فشل الولايات المتحدة في حربي العراق وأفغانستان. والصراع يدور حول المقدار الذي ستتخلى عنه أمريكا من دورها في المنطقة.

وكان رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير قد أعلن أن الحرب على العراق ستحدد العلاقات الدولية لجيل مقبل قادم. وهي في الحق تفعل ذلك الآن، لكن بشكل معاكس لما ظنه بلير وبوش.. أي أنها تحدد العلاقات الدولية لجيل قادم انطلاقا من تقليص الدور الأميركي، أساسا.

وقد ترافق الفشل الأميركي في العراق وأفغانستان مع الأزمة الاقتصادية الكبرى في الولايات المتحدة، التي شبه وزير الاقتصاد الألماني نتائجها المحتملة بنتائج سقوط جدار برلين. إذ هي في رأيه ستعيد التوازنات السياسية والاقتصادية في العالم، مقلصة من الدور الأميركي لصالح شرق آسيا وأوروبا.

2- انهيار الدور المصري، بحيث لم يعد أحد يحسب له حساباً تقريبا. وقد بدأ هذا الانهيار منذ وقت طويل، لكنه اتخذ في السنوات الأخيرة طابعا دراماتيكيا.

3- تفجر العراق ونهايته كقوة إقليمية، أو كقوة يمكن لها ان تنهض لتصبح إقليمية من جديد، بعد الغزو الأميركي.

هذه العوامل الثلاثة أحدثت فراغا هائلا ومركبا لا بد من ملئه، عبر مناورات واسعة بين أطراف عديدة؛ إقليمية ودولية.

وقد حصل شيء مثل هذا في الخمسينيات من القرن الماضي. إذ كان لا بد من ملء الفراغ الذي تركه تراجع الدور الإمبراطوري البريطاني، عن طريق تقدم الدور الأميركي. وقد أدى الصراع حول ملء الفراغ، ومنع الاتحاد السوفيتي من شغله، إلى أن شهدت المنطقة اضطرابا عظيما في تلك الفترة. الآن، وإن بشكل أقل دراماتيكية، وإن يتم أمر مشابه. فما هو مطروح هو ملء الفراغ الناتج عن تراجع القوة الأميركية- وعن انهيار العراق وانسحاب مصر- وانسحابها المتدرج البطيء، لكن الأكيد، أو على الأقل تخليها عن جزء لا بأس بها من دورها.

أما بخصوص الأطراف الإقليمية فمن الواضح أن تركيا وإيران هما من تتقدمان لملء الفراغ. وهما تفعلان ذلك بقدر من التنسيق. وهذا يعني أن علينا ان لا نتوقع صراعاً عثمانياً- صفوياً في هذه الفترة. فالطرفان يدركان أن الاشتباك في ما بينهما لن يجعلهما قادرين على الحصول على حصة من الفراغ الناشئ. وقد أعلن أردوغان في إحدى مقابلاته الحديثة ان تركيا وإيران تستطيعان معا ملء الفراغ. لم يذكر مصر، لأن أحدا لا يتذكر الأموات في العادة. كما أن المطروح أصلا أن يتم اقتسام جزء من الدور المصري بين تركيا وإيران.

طبعا لدينا المملكة العربية السعودية. لكن ألف سبب وسبب يكبل السعودية ويمنعها من أن تشكل قوة إقليمية حقيقية؛ ارتباطها بأمريكا المتراجعة، ضعف بنيتها الداخلية ذات الطابع العشائري، خوف قيادتها من التصدي لملفات شائكة مثل الصراع العربي الإسرائيلي، ضعف قدرتها الديمغرافية مقارنة بالدور المطلوب. وهو ضعف يستحيل التغلب عليه، من دون خطة طويلة المدى لدمج اليمن في مجلس التعاون الخليجي. فقد خلق (الخليج العربي) كوحدة مفترضة أصلا كي يتم إبعاد العراق واليمن.

طبعا يمكن فهم لماذا أبعد العراق فهو سيشكل قوة ستكون منافسة للسعودية لو دخلت مجلس التعاون. أما اليمن فتم إبعاده بسب فقره، وبسبب عدم وجود النفط فيه. وهكذا بدل ان يكون المجلس مجلس تعاون دول الجزيرة العربية، تم اختراع كيان اسمه الخليج العربي، لكي لا يكون مكان لليمن فيه.

بالتالي فلم يكن مجلس التعاون مجلساً لتشكيل قوة إقليمية، بل مجلسا لحماية الثروات النفطية من الطامعين فيه من العرب أساسا، أو ممن يعتقد أنهم يطمعون فيه.

وإذا أريد لهذا المجلس ان يكون بناء إقليميا، فإن وجود اليمن فيه سيكون ضروريا وحاسما، جغرافيا وديمغرافيا. أي أن عليه أن يكون مجلسا لتعاون دول الجزيرة العربية. بهذا يمكن للسعودية أن تشكل مستقبلا قوة إقليمية يمكنها صد الرياح العاتية القادمة من كل مكان. لكن أفق القيادة السعودية أضيق من أن تخطر له مثل هذه الفكرة. فهي مشغولة بالتهديد الأمني للحوثييين، لا بالتهديدات الأكبر القادمة من كل اتجاه.

أما الأطراف الدولية، فالصورة أشد غموضا، غير أن الصين وأوروبا أساسا هما المرشحتان لملء الفراغ من الزاوية الدولية. وهناك بالطبع أطراف أخرى، كالهند وروسيا، لكن طموحاتها أكثر تواضعا.

إذن، نحن أمام لعبة كبرى تسمى لعبة ملء الفراغ، لعبة الوصول إلى اتفاقات كبرى تتيح تثبيت توازنات جديدة. والتوازنات الجديدة ستحسم عبر صراعات ضارية، وعبر بعث نيران كثيرة خامدة. أما العنوان الأبرز الآن في الصراع من أجل الوصول إلى هذه التوازنات فهو إيران. فالصراع حول مدى الدور الإيراني يبدو وكأنه يختصر الصراع المعقد والمتشابك.

إيران ترى نفسها قوة إقليمية لها الحق في ان تملأ جزءا كبيرا من الفراغ. لكن الولايات المتحدة لا تقبل بذلك. ويزيد من استعار الأمر وجود إسرائيل. إذ هي تدفع بكل طاقتها لعدم الوصول إلى صفقة مع إيران، تؤدي إلى الإقرار بدورها، وبسلاحها النووي. يعني في الواقع أن إسرائيل هي من ترفع راية العداء لإيران وليس العكس، كما قد يظن.

وهناك بالتأكيد من يعتقد، في أمريكا وعند العرب كما عند آخرين، ان توجيه ضربة أمريكية لإيران سيعيد ترتيب وضع المنطقة على أسس جديدة. أو انه سيعيد عقارب الساعة إلى الوراء. لكن هذا أمر صعب جدا. ففشل الضربة في تحطيم إيران وتمكنها من الصمود سيؤدي إلى كارثة على أمريكا. بل وربما سيؤدي إلى هذا التواجد الأميركي في المنطقة. وهذا هو ما يمنع أمريكا من الإقدام على ضرب إيران.

وقد اعتقد الأميركيون أنه يمكن قلب حركة عقارب الساعة إلى الوراء بعمل أبسط هو الهجوم على لبنان وتدمير حزب الله عام 2006. لكن هذه الحركة انقلبت إلى عكسها تماما. فقد فشلت، فدارت عقارب الساعة بسرعة أكبر في اتجاهها الطبيعي، اتجاه تراجع الدور الأميركي.

لكن إيران ليست هي النقطة الملتهبة الوحيدة في المنطقة. فهناك أكثر من نقطة يمكن أن تلتهب. صحيح أن الخواصر الضعيفة في فلسطين، العراق، اليمن، ولبنان هي التي يمكن ان تشتعل فيها النيران بسهولة. لكن مصر أيضا يمكن أن تتحول إلى نقطة ملتهبة. فقد وصلت الأوضاع فيها حد الخطر. ولا يمكن استبعاد انفجارها ودخولها في طور الفوضى.

وغياب الأطراف العربية المركزية أو تراجع دورها، يدفع بالأطراف الأخرى إلى زيادة دورها، كسوريا في المشرق، والجزائر في المغرب. ولا يمكن تجاهل التوترات التي تحصل بين الحين والحين في العلاقات المصرية الجزائرية، سواء كانت كروية أو غير كروية. فهي إشارة إلى ان الجزائر تطمح إلى لعب دور مشرقي ما، لن يكون إلا على حساب مصر.

ثمة توازنات جديدة تبنى، أو يتم السعي لبنائها. وهذا السعي يظهر بعنفه وشدته على الجبهة الإيرانية. لكن حركة التوازن الجديدة تشمل المنطقة كلها. التضارب والصراع لتثبيت توازنات جديدة يؤدي أيضا، وبالضرورة، إلى زيادة تأثير أطراف صغيرة؛ حزب الله، حماس، الحوثيون والقاعدة في اليمن، الحراك الجنوبي، وغيرهم الكثيرون. فكل طرف يحاول ان يأخذ حصته من الفراغ سيمد يده لواحد من هذه الأطراف. وهكذا تحصل لعبة معقدة جدا ومتشابكة تلف المنطقة كلها كحزام من نار.

وفي البحر المتلاطم المتحرك، يبدو الطرف الفلسطيني أضعف من الأيتام على مأدبة اللئام. فهو لا يدرك ما يجري، ويشغل نفسه في مسائل صغيرة، من نوع: تنحى أم لم يتنح، الفراغ الدستوري، نفاوض أم لا نفاوض، فتح وحماس. يعني: غياب كامل، لا أمل في تحويله إلى حضور قريبا. الوضع الفلسطيني أشبه ما يكون بالوضع المصري: كل شيء يتفتت وينهار، ولا نجد أحدا ينهض ليوقفه.

فلسطين ومصر تغرقان معا. واحدة تغرق وتغني لرئيس ميت تقريبا، والأخرى تغني لشخص مشبع بأيديولوجيا بسيطة، ويملك موهبة في عدم القدرة على إدراك ما يجري من حوله.

التعليقات