31/10/2010 - 11:02

شهادة عراقية مذهلة../ فيصل جلول

شهادة عراقية مذهلة../ فيصل جلول
نشرت صحيفة “التايمز” البريطانية شهادة لسجين عراقي سابق في المعتقلات الامريكية ختمها بقوله “كانوا يعاملون الحيوانات أفضل منا”، واشار الى أنه ورفاقه كانوا يطالعون القرآن الكريم معظم الوقت. وبعث برسالة إلى الأمريكيين مفادها “إذا كنتم تنادون بالديمقراطية فعليكم ان تطبقوها”.

تنطوي هذه الشهادة على مؤشرات ثلاثة هي في أصل مشروع الاحتلال الامريكي الفاشل في العراق. المؤشر الأول يتصل بالنظرة الى الحيوانات والكلاب بخاصة، فمن جهة تعيش الحيوانات الأليفة مع الأمريكيين (والغربيين) عصرها الذهبي وهم يصرفون مليارات الدولارات من أجل العناية بها والإفادة منها. وتحتل الكلاب عندهم مرتبة مفضلة تحرسها جملة واسعة من القوانين التي تنظم العلاقة بين الإنسان والحيوان.

والمؤشر الثاني يتصل بالقرآن الكريم، ذلك ان المحتل يفترض شبهاً بين أثر الكتاب المقدس الهامشي في حضارته وأثر المصحف عندنا، وانطلاقاً من هذا الافتراض يسمح للسجناء بقراءة المصحف حصراً دون الكتب السياسية أو التحريضية، وفي ظنه أن هذه المبادرة تضعف إرادة السجين وتجعله أقل تمرداً وحقداً على السجان.

ولعل المحتل قد ادرك متأخرا أن قسماً كبيراً من السجناء العراقيين “العلمانيين” قد وجد فرصة في السجن لتجويد المصحف الشريف وبالتالي اختصار المسافة التي كانت تفصله عن السجناء الإسلاميين، الذين ما كانوا يحتاجون في سجونهم الى شيء آخر قدر حاجتهم الى القرآن كمصدر روحي لتحمل شروط السجن القاسية والاحتفاظ بكامل إرادتهم، وبالتالي رفضهم للاحتلال ومشروعه القميء.

والمؤشر الثالث في رسالة السجين العراقي يكمن في نظرته للديمقراطية، حيث يعتبر أن المحتل الأمريكي يريد فعلاً نشر الديمقراطية في العراق، لكنه لم يحسن تطبيقها.

وينطوي هذا المؤشر على وجهين، الأول يتعلق بفشل الاحتلال في تسويق ذرائعه الديمقراطية في العراق، والثاني يكمن في الوعي العراقي لهذه الذرائع. ولعل الأهم بالنسبة لنا هو الوجه الثاني، حيث يلوح مع الأسف سوء فهم حضاري مازال جاثماً في مخيلتنا منذ تخلفنا عن الغرب في القرن الثامن عشر. ذلك أننا نعاني نحن أيضاً وليس الأمريكي وحده من آفة السذاجة في نظرتنا الى الغرب ومقاصده وأهدافه.

والمثال العراقي ليس فريداً من نوعه، فقد زين الفرنسيون للمصريين في حملة نابليون بونابرت عام 1798 أن حملتهم تهدف الى رفع شأن بلادهم بين الأمم وليس احتلالها، فكان أن رحلوا عن مصر وحملوا معهم آلات الطباعة بالأحرف العربية ولم يتركوها للمصريين ناهيك عن المنهوبات التي صادروها قبل رحليهم.

وقد أمضى البريطانيون قرناً وثلث القرن في عدن ومثلهم فعل الفرنسيون في الجزائر وكان بوسعهم خلال تلك السنوات الطويلة نشر الحداثة والمعاصرة والديمقراطية ورفع شأن البلدين لكنهم لم يفعلوا. ذلك لأن مسائل التحديث والديمقراطية هي من بين مصادر قوة المحتل وتفوقه وموقعه بين الأمم، فكيف ولماذا يعطي وسائل تقدمه وقوته للتابع له والخاضع لسيطرته؟

والمذهل في هذا السياق أننا لم نتعظ بتجارب الجزائر ومصر وعدن، فإذا بنا نصدق مزاعم الحلفاء الغربيين في الحرب العالمية الاولى بأنهم يريدون لنا وطناً عربياً واحداً مرفوع الشأن بين الأمم، شرط أن نقاتل الاتراك، فكان أن صدقنا وقاتلنا العثمانيين فإذا بنا بعد الحرب نخسر الخلافة ونخسر فلسطين التي صارت مشروعاً لكيان صهيوني ونخضع للاستعمار.

ورغم كل تلك التجارب المؤلمة لم نتعظ، فإذا بنا نصدق مزاعم المحتل الأمريكي بالديمقراطية والحرية ليتبين بعد سنوات ان المحتل دمر باسم هذه القيم الدولة العراقية وشتت شمل العراقيين وجعلهم فرقاً وطوائف وأعراقاً متقاتلة ومتنافسة، بعد أن كانوا شعباً واحداً من اهم شعوب المنطقة واكثرها اعتزازا وافتخارا بإنجازاته وتقدمه.

ورغم التجربة العراقية الحزينة والتي لم يمر عليها الزمن بعد ها هو سجين عراقي مسكين يعتقد أن المشكلة تكمن في سوء تطبيق الديمقراطية الامريكية في العراق وليس في مشروع الاحتلال، الذي لا يمت بصلة الى كل هذه القيم والصور البراقة.

وإذا كانت المؤشرات المذكورة في شهادة السجين العراقي تفصح عن بعض جوانب الاصطدام الحضاري بين العراقيين والمحتل الامريكي، فإنها تنطوي على نوعين من الوعي، الأول يميز المحتل الذي يحتفظ بالوسائل التي تتيح له استخلاص الدروس المفيدة من مشروعه الفاشل، والثاني يميز الضحية العراقية التي تلقت ضربات متعددة في الرأس، لعل أخطرها تلك النافذة الى وعي السجين المسكين الذي ما زال يظن أن خراب بلاده يكمن في سوء تطبيق الديمقراطية الأمريكية. هنا الفاجعة وهنا يجدر إمعان النظر.
"الخليج"

التعليقات