31/10/2010 - 11:02

صفحة أخرى من تاريخ اليسار الصهيوني / د.محمود محارب

صفحة أخرى من تاريخ اليسار الصهيوني / د.محمود محارب
تنبه العرب مبكرا, وخاصة في بلاد الشام الفلسطينية والسورية, إلى مخاطر الصهيونية على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية. فقبل مئة عام, مثلا, حذر نجيب عازوري من أخطار الصهيونية على فلسطين والعرب وعلى السلام العالمي, داعيا العرب والدول الكبرى التصدي للصهيونية ومقاومتها.

لم يكن تحذير نجيب عازوري صرخة في واد. فقد تلته, وأيضا سبقته, كوكبة من النخب الفكرية والسياسية العربية التي ما إن أدركت كنه الصهيونية وأهدافها ومخاطرها حتى وسارعت ودعت لمقاومتها. وكان من بين هؤلاء نجيب نصار صاحب جريدة الكرمل التي بدأت في الصدور في حيفا في العام 1909 والمصلح محمد رشيد رضى وغيرهما.

في الوقت نفسه, وفي مقابل ذلك, وجدت الصهيونية العديد من القادة والنشطاء العرب, منذ بدايات القرن العشرين, وخاصة أثناء وبعد العرب العالمية الأولى, الذين تعاونوا مع الصهيونية لتحقيق أهدافهم, حتى وان كان ذلك على حساب فلسطين. وقد أنقسم هؤلاء بين جاهل بالصهيونية وبأخطارها أو طامع في دعمها المالي والسياسي, معتقدا خطأ أنها تملك الأموال الجمة, وانها تسيطر على عالم ما قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها!

في سياق سعيه لتسويق الصهيونية للنخب العربية وللرأي العام العربي, بذل اليسار الصهيوني, متمثلا في قادة ونشطاء ومفكري الأحزاب الصهيونية العمالية جهودا كبيرة في رسم صورة عن الصهيونية والاستيطان الصهيوني في فلسطين, مغايرة عن, متناقضة مع, ماهية الصهيونية وأهدافها. بالطبع استفاد اليسار الصهيونية من حكاية أو بصورة أدق "حدوثة" غنى الصهيونية وثروتها المالية الهائلة, وسيطرتها على عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى, واستثمر هذه الخرافة في اتصالاته مع النخب العربية بدون أن يكلفه ذلك كثيرا. ادعى اليسار الصهيوني أن الصهيونية لا تجلب سوى الخير والبركة والحداثة للعرب بصورة عامة وللفلسطينيين بصورة خاصة. ونفى أن يكون الفلسطينيون يشكلون شعبا لهم حقوق جماعية أو قومية وتعامل معهم كأفراد عرب, ودعا الفلسطينيين وبقية العرب دعم الصهيونية و"البيت القومي اليهودي" و"الدولة اليهودية". والصق تهم التطرف والإرهاب بكل من يرفض الصهيونية أو يقاومها.

أدركت الحركة الوطنية الفلسطينية والمواطن الفلسطيني العادي حدة التناقض الحقيقي ما بين الصهيونية والشعب الفلسطيني. فالمواطن الفلسطيني العادي عانى على جلده من شعارات وممارسات اليسار الصهيوني في "احتلال الأرض" و"احتلال العمل" و"احتلال الإنتاج". كذلك أدرك طبيعة العلاقة ما بين الصهيونية والاستعمار البريطاني الذي كان يدعمها إلى أن يشتد ساعدها لتعتمد على ذاتها.

لقد أدرك المواطن الفلسطيني أن كلام قادة اليسار الصهيوني واستعماله المصطلحات الرنانة حول السلام والمحبة والأخوة كانت بمثابة المنوم أو المخدر الذي يمنحه الصياد لفريسته لكي تنام ليتسنى له اصطيادها بهدوء ومن ثم يأكلها في وجبة دسمة.

تكشف الوثائق الإسرائيلية المنتشرة في الارشيفات الإسرائيلية أن المواطن الفلسطيني كان محقا. وسنقدم ثلاث صور نموذجية عن مسلكية اليسار الصهيوني وخساسته, اثنتان منهما نأخذها من دائرة "بريت شلوم" (ميثاق سلام) بالذات التي كانت تقع على أقصى اليسار الصهيوني.

الصورة الأولى: تكثر المراجع العبرية الحديث عن حاييم مرجليوت كلفاريسكي. بعض هذه المراجع يتحدث عن دوره في "بريت شلوم" (ميثاق سلام) فحسب, والبعض الآخر يتحدث عن دوره فقط في التجسس على العرب. وكأن حاييم كلفاريسكي له شخصيتان منفصلتان عن بعضهما البعض ولا علاقة للشخصية الواحدة بالأخرى. ولا يلتقي "دكتور جايكل" و"مستر هايد", أي لا يلتقي كلفاريسكي "محب السلام" وكلفاريسكي قائد جهاز التجسس على العرب, في الأدبيات العبرية الا ما ندر. وفي هذه المرات النادرة يشار فقط إلى كلفاريسكي كخبير في الشؤون العربية ولا يتم تحليل استعمال منصة الحديث عن السلام كغطاء لتجنيد العملاء والجواسيس.

ولد حاييم كلفاريسكي في بولندا في العام 1868 وهاجر إلى فلسطين واستوطن فيها في العام 1895, وعمل مديرا للمستوطنات اليهودية الصهيونية التي كان يدعمها البارون روتشيلد. وأثناء عمله أكثر من الاختلاط مع العرب, فتعلم اللغة العربية واكتسب خبرة كبيرة ليس فقط في ادارة المستوطنات وانما في كيفية "التعامل" مع العرب وطرق خداعهم ووسائل الاستيلاء على الأراضي العربية وخاصة في جليل فلسطين. وكان عضوا في اللجنة القومية (فاعد ليؤمي) الصهيونية في الفترة ما بين 1920 -1929. ورأس "المكتب العربي" الجهاز المختص بالتجسس على العرب منذ 1923 وحتى 1927. ثم رأس جهاز "المكتب الموحد" الذي انشئ في اعقاب ثورة البراق والخاص بالتجسس على العرب والتابع للوكالة اليهودية و"اللجنة القومية" اليهودية منذ 1929 وحتى 1931.

في الوقت الذي رأس به كلفاريسكي الجهاز الأساس في التجسس على العرب, أسس هو وصهيونيون آخرون في العام 1926 جمعية "بريت شلوم" (ميثاق سلام). وكان كلفاريسكي من أهم نشطاء "بريت شلوم" ومن أبرز محرري صحيفتها. وشكلت "بريت شلوم", على قلة عدد أعضائها, حالة خاصة في مجتمع المستوطنين حيث أكثرت في التغني والحديث عن السلام. وبين منشور علني يدعو الى السلام ونشرة أخرى تدعو إلى أخوة الشعوب, كان كلفاريسكي يعمل سرا عبر جهاز التجسس الذي يرأسه بجهد منقطع النظير لتحقيق أهداف تتناقض مع ما يدعو له علنا. فقد عمل بوصفه رئيس الجهاز التجسسي على العرب إلى تحقيق الأغراض الآتية:

أولا, عدم الاعتراف بالحركة الوطنية الفلسطينية. ثانيا, عدم الاعتراف بالقيادة الفلسطينية. ثالثا, تفتيت الشعب الفلسطيني وزرع الفتنة والخلاف بين العرب الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين, ورصد مبالغ طائلة استعملها لتحقيق هذا الهدف. وتعج الملفات في الأرشيفات الصهيونية بجهوده هذه الساعية إلى تحريض المسلمين على المسيحيين وبالعكس, والتي باءت معظمها بالفشل. رابعا, استعمال منصة الحديث عن السلام و كذلك استعمال الرشاوي لتجنيد العملاء. وقد بذل كلفاريسكي جهودا كبيرة في اعقاب ثوره البراق لتجنيد العملاء في العواصم العربية المحيطة بفلسطين.
وكان أبرز انجازاته في جهوده هذه نجاحه في تجنيد الصحفي اللبناني خير الدين الأحدب في العام 1930 للعمل كمخبر لجهاز المخابرات في الوكالة اليهودية براتب سنوي مقداره 500 جنيه فلسطيني. وقد ظل يعمل خير الدين الأحدب مخبرا لصالح جهاز المخابرات التابع للوكالة اليهودية حتى بعد أن أصبح رئيسا لوزراء لبنان في أواخر ثلاثينات القرن العشرين. وهناك مئات التقارير في الارشيفات الصهيونية التي توثق تفاصيل هذه العمالة بكل حيثياتها.

الصورة الثانية: بطل هذه الحالة هو أرثور روبين مؤسس ورئيس "بريت شلوم", الذي كان يشغل في الوقت نفسه منصب مدير قسم الاستيطان في المنظمة الصهيونية. كان ارثور روبين يكثر دوما من الحديث عن السلام, وهو أمر اشتهر به جميع قادة اليسار الصهيوني. فزعيم هذا التيار دافيد بن غوريون تكاد لا تخلو له خطبة أو مقالة بدون الحديث عن السلام, ولكن من الصعب أن يجد المرء في "يومياته" التي كان يدونها يوميا, أية كلمة عن السلام.

كان ارثور روبين يدعو إلى تحقيق أهداف الصهيونية وانشاء "البيت القومي" اليهودي بالتفاهم مع العرب, لأنه هو وقادة بريت شلوم كانوا يشككون في مقدرة الصهيونية تحقيق أهدافها بالقوة ضد إرادة الشعب الفلسطيني والمجتمع الدولي (انظر كتاب يوسف هلر "مبريت شلوم لأحود" سنة 2003)
وعند اندلاع ثورة 1936 الفلسطينية ظل ارثور روبين يدعو علنا إلى السلام والتغني به الا أنه شرع يؤيد "الترانسفير" أي الطرد القسري للفلسطينيين.

الصورة الثالثة: هناك بطلان في هذه الصورة, الأول هو موشيه شرتوك (شاريت) الذي رأس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية منذ العام 1933 وحتى العام 1948, ثم أصبح وزير الخارجية ورئيسا للوزراء في إسرائيل. كان موشيه شاريت, بوصفه رئيسا للدائرة السياسية في الوكالة اليهودية مسؤولا عن ملف جهاز التجسس على العرب. وكان يتابع بشغف نشاط عملائه في البلاد العربية. أما البطل الآخر فهو نحوم فيلانسكي الذي أرسلته الوكالة اليهودية في أواخر عشرينات القرن العشرين إلى مصر ليقوم بجمع المعلومات والتجسس على ما يجري فوق أرضها. وفي العام 1934 استجاب موشيه شريت لطلب نحوم فيلانسكي وكلفه بانشاء "وكالة الشرق – شركة تليغرافية لاذاعة الأنباء السياسية والاقتصادية والمالية" في القاهرة. وبعد أن انجز فيلانسكي هذه المهمة, في بداية العام 1934, قامت الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية بتزويد "وكالة الشرق" بالمواد الدعائية الصهيونية لنشرها في الصحف العربية الصادرة في مصر وفي البلاد العربية الأخرى.

ويستدل من التوجيهات التي أرسلها موشيه شاريت إلى فيلانسكي ومن التقارير التي بعثها فيلانسكي إلى شاريت أن خلق فجوة وجفاء بين الحركة الوطنية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني من جهة, والرأي العام العربي من جهة أخرى كان من أهم أهداف الوكالة اليهودية حينئذ. ولتحقيق ذلك اقترح فيلانسكي الشروع بشن "هجوم سلام كبير" وذلك عبر نشر مقالات في الصحافة اليهودية في فلسطين تدعو إلى السلام مع العرب لتقوم وكالة الشرق بترجمتها وتوزيعها ونشرها في الصحافة العربية. وكان له ما أراد. فقد ترجمت وكالة الشرق الكثير من هذه المقالات التي كتبت خصيصا لكي توهم الرأي العام العربي وتخدعه. اعتقد فيلانسكي أن "هجوم السلام" هذا يتوجب أن يوجه ليس إلى الفلسطينيين وانما إلى البلاد العربية التي يمكن أن تتأثر به, وكذلك إلى الدوائر الأوروبية المهتمة بفلسطين. ويظهر من تقارير فيلانسكي أنه تأثر كثيرا من ازدياد تعاظم التعاطف الشعبي المصري مع نضال الشعب الفلسطيني. وقد خشي فيلانسكي أن يقود ذلك إلى قيام جبهة عربية عريضة تعارض الحركة الصهيونية وتقاومها. لذلك وفي ظل استمرار وازدياد التعنت الصهيوني في تلك الفترة الرافض بشدة استقلال فلسطين والرافض وقف الهجرة اليهودية الى فلسطين والرافض تقديم مشروع سلام, اقترح فيلانسكي الكتابة في الصحف اليهودية عن السلام والتغني به إعلاميا. وأضاف أن هذا الحديث عن السلام له نتائج سحرية على أجزاء واسعة من الرأي العام العربي. وما أشبه الأمس باليوم.

التعليقات