31/10/2010 - 11:02

عقوبة الفرنسيس على الحوار مع الرئيس../ فيصل جلول

عقوبة الفرنسيس على الحوار مع الرئيس../ فيصل جلول

صار على الصحافي الفرنسي أن يتوخى الحذر الشديد إذا ما أراد إجراء مقابلة صحافية مع أي رئيس للجمهورية وليس فقط مع رئيس الدولة في بلاده، بل صار من الأفضل أن يعتمد خارطة طريق مضمونة العواقب وإن لم يفعل فله سوء العاقبة.

ليست هذه الخلاصة ضرباً من ضروب المبالغة والتهويل. إنها حصيلة مستمدة من وقائع قضايا منشورة لم يمر عليها الزمن بعد. القضية الأولى تتصل بالصحافي الأشهر في بلاده “باتريك بوافر دارفور” مقدم أخبار الثامنة مساء في القناة الفرنسية الأولى لعشرين عاماً. والقضية الثانية بطلها الصحافي اللامع ريشار لابيفيير صاحب كتاب “الارتداد الكبير. بيروت بغداد”. والقضية الثالثة بطلها الصحافي المعروف آلان مينارغ صاحب كتاب “أسرار الحرب اللبنانية” وكتاب آخر بعنوان “حائط شارون”. الصحافيون الثلاثة قابلوا أو تحدثوا مع رؤساء، ودفعوا من بعد ثمناً باهظ التكلفة فقد خسروا وظائفهم وجعلوا عبرة لمن يعتبر من زملائهم.

“بوافر دارفور” تجرأ في مقابلة تلفزيونية مع رئيس الجمهورية نيكولا ساركوزي على مداعبة رئيسه بالقول “لقد كنت أثناء قمة الثمانية الأكثر تصنيعاً كفتى يلعب في ملعب الكبار للمرة الأولى فهل كان لديك مثل هذا الشعور؟” أجاب ساركوزي عن السؤال بهدوء لكن المقربين منه عبروا عن امتعاضهم وتخيلوا مؤامرة مبيتة. ومن ثم فقد الصحافي الأشهر عرشه في القناة الأهم في فرنسا بحجة أخرى، ومن دون أن يبذل المعنيون جهداً في تدبير سيناريو محكم لطرد المذيع المذكور. هنا تجدر الإشارة الى أن تعبير “الطفل” و”الفتى” في التقاليد الفرنسية يطلق على الكبار تحبباً ومداعبة وليس احتقاراً أو استصغاراً.

بعد شهور من إقصاء “بوافر دارفور” ها هو الصحافي ريشار لابيفيير رئيس التحرير في “اذاعة فرنسا الدولية” يفقد عمله بسبب مقابلة مع الرئيس السوري بشار الأسد نشرها بفارق زمني ضئيل مع قناة “تي في 5” الفرنسية الدولية. أما عن السبب فهو يتصل (حسب المنشور في وسائل الاعلام المحلية) ب “خطأ فادح” ارتكبه الصحافي أثناء ممارسة عمله إذ لم يبلغ رؤساءه بإجراء المقابلة ولا بموعد نشرها في المحطة والإذاعة مع فارق زمني محدود، علماً بأن لابيفيير يؤكد بالوثائق اطلاع الهرمية الإدارية على تفاصيل النشر من دون الابلاغ عن الحوار قبل بثه لأن القانون الفرنسي يتيح له ذلك عبر تشديده على التكتم حول “سرية المصدر”. والثابت أن لابيفيير كان سيكافأ لو أن المقابلة تمت مع رئيس “إسرائيل”، بل ربما يطلب منه أن ينشرها في كل محطات العالم قبل محطته.

وكان الصحافي آلان مينارغ الرجل الثاني في “اذاعة فرنسا الدولية” قد فقد منصبه في هذه الاذاعة لأنه تعرض لرئيس وزراء “إسرائيل” السابق مرتين. الأولى في كتابه حول “أسرار الحرب اللبنانية” عندما اتهم ارييل شارون بتدبير مجازر “صبرا وشاتيلا”، والثانية عندما وصف جدار شارون في الضفة الغربية بالجدار العنصري، أي بما يستحقه من الوصف، علماً أن مينارغ نشر في كتابه الأول تفاصيل مذهلة عن جرائم “القوات اللبنانية” خلال حرب العام 1982 بالتعاون مع “إسرائيل”، في وقت كانت “القوات” تعمل بقوة مع فريق “14 آذار” اللبناني من أجل إسقاط النظام السوري بتغطية فرنسية علنية.

ومع أنه لم يجر مقابلة مع رئيس بلاده ولم يحاور رئيساً عربياً ممانعاً لفرنسا والولايات المتحدة، فقد دفع الباحث الفرنسي المعروف باسكال بونيفاس ثمناً باهظاً جراء ملاحظاته النقدية في العام 2004 ضد حكومة شارون ومشاريع الفصل العنصري في الضفة الغربية وقطاع غزة، ما دفعه الى نشر كتاب هجومي شهير بعنوان: “هل يمكن انتقاد “إسرائيل”؟” والمقصود هل يسمح بانتقاد “إسرائيل”؟

كان يمكن إضافة أسماء أخرى إلى هذه اللائحة مثل الفيلسوف روجيه غارودي والنجم المسرحي ديودونيه وغيرهما من الذين دخلوا دائرة الصمت والعزلة القاتلة جراء انتقاد “إسرائيل”، لولا استدرجوا نحو قضايا أخرى تتصل بضحايا النازية وخضوعهم لمحاكمات انتقلت خلالها المعركة من المجال السياسي الى المجال اليهودي البحت، الأمر الذي سهل مهمة خصومهم وساعد على عزلهم.

ينطوي ما سبق على مخاطر جدية حول “حرية التعبير في فرنسا”. ذلك بأن تدمير نجم صحافي عقاباً على سؤال، وشطب صحافي آخر عقاباً على مقابلة، وفصل صحافي ثالث من عمله عقاباً على رأي، تعني أن على الصحافيين الذين يريدون الحفاظ على عملهم أن يعتمدوا في ممارسة المهنة لائحة ممنوعات ومسموحات غير معلنة وملائمة لمزاج وحسابات وحسن ظن من بيده الأمر. ولعل أخطر ما في الأمثلة المذكورة أن ضحاياها من الصحافيين الكبار واللامعين الذين يتمتعون بسلطة معنوية كبيرة وبحضور واسع في أوساط الرأي العام ولعل عقابهم ينبه غيرهم الى وجوب الخضوع وطلب الثواب.

والظاهر أن “عقاب” الصحافيين في فرنسا على “جريمة” حرية التعبير لا يثير حفيظة منظمة “مراسلون بلا حدود” الفرنسية، ولا يحمل مديرها روبير مينار على إصدار ملصق شبيه بملصق “الكلبجات” الأولمبية دفاعاً عن التيبت عشية انطلاق الألعاب الأولمبية في الصين، ما يوحي بأن السيد المذكور “متخصص حرية تعبير” في البلاد العربية وفي الشرق عموماً، ولربما يحتاج إلى من يلفت انتباهه الى أنه عندما يدعونا إلى اقتفاء أثر بلاده في مجال التعبير الحر فلن يكون الأمر صعباً بعد اليوم، بل ربما نتفوق على فرنسا في مجال انتقاد “إسرائيل” ما خلا مثال “الجزيرة” في برنامج “حوار مفتوح” الذي استضاف الأسير المحرر سمير القنطار والذي استدرج ضغوطاً “إسرائيلية” على القناة كي ترسل غسان بن جدو الى المقصلة.

تبقى الإشارة الى أن عقاب صحافيين في فرنسا على “جريمة” التعبير الحر لا يبيح لأحد السير على الرسم نفسه، ذلك بأن الحاجة الى الحرية ليست ماركة فرنسية مسجلة بل شرط بقاء لنا ولغيرنا من الشعوب التي تعاني من مرض الاستبداد.
"الخليج"

التعليقات