31/10/2010 - 11:02

فرصة لن تتكرر".. لـ "تسوية مؤلمة"../د. عصام نعمان

فرصة لن تتكرر
أهمل جورج دبليو بوش الصراع الفلسطيني “الإسرائيلي” ست سنوات كاملة من ولايتيه الأولى والثانية. وها هو اليوم يَعِد الفلسطينيين والعرب و”الإسرائيليين” والأمريكيين والعالم بإدارة “مفاوضات فورية” بين الطرفين المتصارعين من أجل التوصل إلى معاهدة سلام في خلال 14 شهراً هي ما تبقى من ولايته الثانية.

ما أهمله بوش في الماضي كان بذْل الجهود من أجل السلام. لكنه لم يُهمل قط توفير الظروف والإمكانات اللازمة لشن الحرب. حربه الطويلة أطلق عليها اسم “الحرب على الإرهاب”، لكنها في واقع الأمر كانت وما زالت حرباً على المقاومة، مقاومة الشعوب للهيمنة الأمريكية وللاحتلال الصهيوني. لماذا قرر صانع “الفوضى الخلاقة” في آخر عهده المشؤوم ان يتحدث بلغة السلام؟

لعله أدرك بعد طول مكابرة ان نهج استعمال القوة لم ينجح بل ربما تسبّب لبلاده بخسائر فادحة، لذا تراه اليوم يستدرك أخطاءه وخطاياه بمحاولة أخيرة شبه يائسة لتحديد الخسائر وتقليل الأضرار. وهو ما كان ليسلك هذه الطريق لولا إخفاقات عدّة كابدها منذ دخوله البيت الأبيض، فالحرب على الإرهاب التي ترجمها غزواً لأفغانستان واحتلالاً للعراق أخفقت إخفاقاً ذريعاً وكلّفت خزينة بلاده أكثر من خمسة آلاف قتيل وخمسين ألف جريح ونحو ألف مليار دولار، ولمّا تنتهِ بعد. كما ان انحيازه السافر إلى “إسرائيل” وتحريضها، بالسلاح والمال والموقف السياسي، لتصفية المقاومة الفلسطينية باء بالفشل. وقد بلغت إخفاقاته ذروتها باندحار “إسرائيل” أمام المقاومة اللبنانية في حربها الثانية على لبنان صيفَ العام الماضي. إلى ذلك، أخفق بوش، رغم كل أشكال الترغيب والترهيب، في حمل إيران على وقف تخصيب اليورانيوم وتطوير برنامجها النووي.

رافق إخفاقات بوش صعود اقتصادي، وبالتالي سياسي لكل من الصين وروسيا، فدولة المليار والثلاثمائة مليون إنسان تغزو بمنتوجاتها أسواق العالم بأسره ما تسبّب بموازين تجارية مختلّة لمصلحتها مع كل من أمريكا وأوروبا. أما روسيا القارية فقد مكّنتها طاقتها الهائلة من النفط والغاز من لعب دور اقتصادي واستراتيجي متزايد الخطورة في العالم ولاسيما إزاء أوروبا. ويبدو ان الوقت لن يطول قبل ان ينجح العملاق الصيني والدب الروسي في استعادة حال التعددية القطبية التي سادت العالم أكثر من 50 سنة قبل ان تنحسر نتيجة انهيار الاتحاد السوفييتي مطلعَ تسعينات القرن الماضي.

إزاء هذه التطورات والتحولات البازغة في موازين القوى، قرر بوش ان يوظّف ما تبقّى من أشهر ولايته الثانية في سياسة متكاملة ذات أهداف ثلاثة:

محاولة تسوية قضية فلسطين بما هي القضية الأكثر تأثيراً وتحريكاً للعالم العربي والإسلامي وذلك على نحوٍ يستجيب لمطالب “إسرائيل” الحيوية من جهة والحد الأدنى من مطالب الفلسطينيين من جهة أخرى ما يؤدي، في ظنّه، إلى دعم جهوده الرامية إلى بناء جبهةٍ عريضة من الدول العربية والإسلامية تناوئ إيران.

محاولة تسوية قضية العراق بما يؤدي إلى عقد معاهدة سلام معه تحتفظ أمريكا بموجبها ببضع قواعد عسكرية لتأمين هيمنتها على احتياطي النفط العراقي.

محاولة تطويق إيران بسلسلة تحالفات ثنائية أو متعددة الأطراف تضم معظم دول الشرق الأوسط العربية والإسلامية، وتشديد العقوبات الاقتصادية والمصرفية عليها لإضعافها ومنع تكريسها قوةً إقليميةً مركزية، مع إبقاء سيف الحرب مصلتاً فوق رأسها.

في إطار هذه التوجهات دعا بوش نحو 50 دولة للمشاركة في اجتماع انابولس، آملاً ان يسترد من خلاله زمام المبادرة ويباشر العمل من اجل تحقيق أهدافه سالفة الذكر، فهل ينجح؟

الجواب ان التحديات كثيرة، والأزمات الإقليمية الواجبة المعالجة معقدة ومترابطة، والأعداء كثر وأقوياء ومصممون على المقاومة. ثمة أزمات مزمنة ومعقدة في فلسطين والعراق وإيران ولبنان وسوريا وأفغانستان وباكستان والسودان والصومال. أخيراً وليس آخراً ، ثمة أزمة في تركيا التي تواجه أكراد الداخل وأكراد العراق. إن كلاً من هذه الأزمات متفجرة ومتداخلة بالأزمة أو الأزمات المتأججة في الجوار على نحوٍ قد تجد معه إدارة بوش نفسها مضطرةً إلى معالجتها كلها أو معظمها في وقت واحد.

لنأخذ قضيتي فلسطين والعراق مثلين. هل تستطيع إدارة بوش أن تتوصل إلى تسوية في شأنها من دون معالجة قضيتي الجولان السوري المحتل ومنطقة شبعا اللبنانية المحتلة والموقف من المقاومة التي يقودها حزب الله في لبنان مدعوماً من سوريا وإيران؟ وفي العراق، هل يمكن التوصل إلى تسوية في شأن انسحاب القوات الأمريكية من دون معالجة الصراع الدائر بين واشنطن وطهران حول البرنامج النووي الإيراني، والصراع الدائر بين تركيا وحزب العمال الكردستاني؟

غير أن اخطر التحديات يبقى تحدي المقاومة بل المقاومات المتصاعدة ضد أمريكا على مستوى المنطقة بأسرها. ثمة مناخ متأجج من السخط والعداء ضد الولايات المتحدة وسياساتها المناهضة لحقوق الشعوب، يبدو انه من الصعب تغييره أو حتى تلطيفه. لذا ليس من الغلو القول ان اجتماع انابولس قد يتسبب بردود فعل متدرجة ضد المصالح الأمريكية في المنطقة. ذلك بأن قوى المقاومة تستشعر هزيمة أمريكية بازغة ناجمة عن فشل سياسة واشنطن في جميع ساحات المواجهة معها ما يؤدي إلى رهانات متجددة على جدوى توسيع دوائر الاشتباك ضدها.

بموازاة هذه التحديات، ثمة شكوك في قدرة ايهود اولمرت وفريقه الحاكم على تقديم تنازلات محسوسة للجانب الفلسطيني، كما هناك شكوك في قدرة محمود عباس ناهيك عن رغبته في توقيع معاهدة مع “إسرائيل” لا تكون معها القدس عاصمة لفلسطين، والضفة الغربية خالية من المستوطنات الصهيونية، والحدود مطابقة لخطوط وقف النار عشية حرب ،1967 واللاجئون قادرين على العودة إلى ديارهم وبيوتهم في كل أرجاء فلسطين التاريخية.

ثم من يجرؤ على تأكيد أن بوش سيكون في وسعه ممارسة ضغط كافٍ على “إسرائيل” لتقديم حد أدنى من التنازلات، او ان اولمرت سيكون مستعداً للمراهنة على رئيس أمريكي أصبح، بالتأكيد، بطة عرجاء في الهزيع الأخير من ليل ولايته الطويل؟

قال اولمرت في انابولس إنه “مستعد لتسوية مؤلمة”. أما أبو مازن فقال ان المؤتمر “فرصة لن تتكرر”.

لعل أخشى ما يخشاه الفلسطينيون ان تكون إعادة احتلال قطاع غزة للتخلص من “حماس” “فرصة لن تتكرر” لأولمرت و”تسوية مؤلمة” لمحمود عباس... لا سمح الله.
"الخليج"

التعليقات