31/10/2010 - 11:02

في جوهر الأمن القومي../ عبد الإله بلقزيز

في جوهر الأمن القومي../ عبد الإله بلقزيز
بات كل حديث في الأمن القومي في العالم المعاصر يتخطى، حكماً، تخوم ميدان الحرب والأمن الدفاعي والاستراتيجيا العسكرية ليتصل بميادين الاقتصاد والاجتماع والثقافة.

ففي التعريف الحديث للأمن القومي، لم تعد المؤسسة العسكرية هي الجهة المنوطة بمهمة حماية ذلك الأمن وتحقيق المصالح القومية العليا أو صيانتها، بل غدت تشاركها الدور عينه المؤسسات الاقتصادية والمدنية والرمزية. والحق أن هذا التوسيع لدائرة مفهوم الأمن لم يكن حصيلة ترف نظري لدى المشتغلين في حقل الاستراتيجيا، بمقدار ما أتى يعبر عن التمفصل الموضوعي للمستويات العسكرية والاقتصادية والاجتماعية في تكوين نسيج الأمن الخاص بمجتمع أو أمة في عالم جديد نزّاع إلى تحقيق الترابط والتداخل بين مستويات النظام الاجتماعي.

قبل عقود قليلة خلت، كان مجتمع ما يستطيع أن يضمن لنفسه إشباعاً أمنياً ذاتياً من خلال تطوير قدرته على حماية سيادته وحوزة ترابه من الاستباحة الخارجية. ولم يكن يكلفه ذلك أكثر من تطوير بنيته التحتية العسكرية وقدرته الميدانية على القتال والدفاع.

والمفهوم من ذلك أن معنى الأمن تطابق حينه مع معنى السيادة الترابية، فكان أن أوكلت مهمة حراسة تلك السيادة إلى جهاز من الدولة خاص بأداء المهمة عينها هو الجيش ومن يتفرع عنه من أجهزة ملحقة كالمخابرات ومراكز الدراسات الاستراتيجية.

ولعل في ذلك بعض تفسير لظاهرة تضخم النزعة العسكرتارية في الفكر السياسي الحديث “إلى حدود بداية النصف الثاني من هذا القرن” وفي سلوك الدولة والنخب الحاكمة، ومن ذلك مثلاً دور العسكر في الحياة السياسية في دول الجنوب، وخاصة منها دول أمريكا اللاتينية والعالم العربي وإفريقيا، ودور المجمع الصناعي الحربي في الولايات المتحدة، فضلاً عن دور الضباط في تجربة دول “المنظومة الاشتراكية”.

غير أن الأمر اختلف قليلاً في العقود الأربعة الأخيرة: لم يعد الجيش، ولم تعد القدرة العسكرية الضاربة كافيين لحماية الأمن القومي لدولة ما من دول العالم المعاصر. أضحى ضرورياً أن تنهض بدور الأمن مؤسسات أخرى مدنية غير مؤسسة العنف كالمؤسسة الإنتاجية “الصناعية أو الزراعية أو العلمية التقانية” والمؤسسة الثقافية والإعلامية والتربوية وسواها مما كان إلى عهد قريب في حكم المهمّش أو المستبعد من أداء أي دور أعلى يتصل بالمصالح العليا للمجتمع والدولة.

وقد جرى الوعي بهذه الحقيقة “الجديدة” من خلال معاينة ميدانية لقصور المؤسسة العسكرية المادي عن النهوض بأعباء حماية ذلك الأمن. ويستفاد من هذه الملاحظة أن الأمر يتعلق هنا حتى بالمجتمعات والدول التي بلغت أعلى مراتب مراكمة عناصر وشروط القوة العسكرية، وتجاوزت مطلب حماية حدودها من الخطر الخارجي إلى ممارسة دور عسكري إقليمي يفيض عن تخومها الترابية أو عن حدودها الأمنية الطبيعية.

في امتداد أحكام هذه الحقائق الأمنية “الجديدة”، أصبح مؤكداً بقوة الدليل المادي أن المجتمعات التي لم تنجح في تحقيق أمنها الاقتصادي والغذائي، أو التي لم تنجح في حماية أمنها الثقافي والقيمي من الاستباحة الرمزية الاجنبية، سوف تعاني من خصاص حاد في أمنها القومي حتى إن هي امتلكت من الأسباب العسكرية ما قد تعتقد أنه يوفر لسيادتها الحماية والمناعة من المخاطر الخارجية المحتملة. ذلك أن السيادة لم تعد تعني في عالم اليوم تأمين الثغور من الاختراق العسكري، وصون حوزة التراب الوطني من الانتهاك أو الاحتلال، بل باتت تعني حماية استقلال القرار الوطني. وهاكم أدلة ثلاثة على الأقل على هذه الحقيقة:

الأول، يتعلق بدول الجنوب. تبدو هذه الدول حديثة الاستقلال الوطني وكأنها تتمتع بسيادتها على أراضيها بعد جلاء قوات الاحتلال عنها. لكن التأمل في تضاعيف خريطتها السيادية يكشف عن أنها لا تزال تقع على نقطة بعيدة جداً من تحقيق الحد الأدنى المطلوب من أمنها القومي. فهي عجزت حتى الآن عن إنجاز برنامج تنموي ذاتي، ولا تزال تعيش تحت وطأة التبعية الثقافية للدولة المستعمِرة. ولم تبرح حتى الآن منطقة الرضوخ لتوصيات المؤسسات المالية وبنوك الإقراض العالمية على الرغم من كل الرصيد اللفظي الذي راكمته عن خطابها “الوطني” “التحرري”. إنها تفتقر إلى أسباب استقلال قرارها الوطني، وهي مضطرة تبعاً لذلك لتعليق حرية اختيارها من أجل التكيف مع مطالب المؤسسات الدولية المالية المهيمنة والتي تصنع لها تلك الاختيارات نيابة عنها ثمناً للقروض والمعونات التي تقدمها إليها.

الثاني، يتعلق بـ“المنظومة الاشتراكية”، إذ على الرغم مما راكمته من أدوات القوة العسكرية الاستراتيجية خاصة في الاتحاد السوفييتي إلا أنها لم تستطع حماية أمنها القومي من الاختراق الخارجي بسبب ضعف وهشاشة بنيتها الصناعية والإنتاجية، وعجزها عن إشباع حاجات شعوب كانت عرضة لعملية إغراء هائلة من النموذج الاستهلاكي الرأسمالي على نحو ما قدّم لها نفسه من خلال الإعلام. وحين انهارت دول المعسكر “الاشتراكي”، لم تنهر لخصاص في احتياجاتها الأمنية العسكرية، بل بسبب فقدانها أمنها الاقتصادي والغذائي. وهكذا لم ينفع الجيش القوي في تعويضها عن أمنها الاقتصادي المنهار.

أما الثالث، فيتعلق باليابان وألمانيا، إنهما من أكثر الدول العظمى تمتعاً باستقلال القرار الوطني وبحيازة حقها من الأمن القومي. ولا يعود ذلك إلا لنجاحهما في تحقيق أمن اقتصادي وغذائي وتقاني تستكفيان به عن الغير. وكان هذا كافياً لهما لضمان أمن قومي لا يستطيعه جيشهما المجرد من السلاح الاستراتيجي منذ نصف قرن.

ثلاثة شواهد إذاً تقيم الدليل على أن معنى الأمن القومي بات، في العالم المعاصر، أوسع من المعنى العسكري الضيق. لا بل هي تقيم الدليل على أن القوة الاقتصادية واستطراداً العلمية والتقانية هي، اليوم، جوهر الأمن القومي. ولعل العرب أكثر من يحتاج إلى هذا الدرس. إذ من شأن تحويل جزء من إنفاقهم العسكري الضخم إلى الاستثمار الاقتصادي طويل الأمد، والى تنمية البحث العلمي، أن يغيّر الكثير في موقعهم على خريطة العالم.
"الخليج"

التعليقات