31/10/2010 - 11:02

كلاوزفيتز أو “جهينة” حرب غزة../ فيصل جلول

كلاوزفيتز أو “جهينة” حرب غزة../ فيصل جلول
“كل الحروب في النصف الثاني من القرن العشرين لم تنته بالاستسلام من دون قيد شرط. انتهت كلها باتفاقات. كل القوى العظمى التي خاضتها لم تصب بهزيمة عسكرية إلا فرنسا في ديان بيان فو.

كانت الدول العظمى تتخلى في هذه الحروب عن القتال بسبب تعبها وبعد اقتناعها بأنها لن تنتصر، كما حصل للأمريكيين في فييتنام وللسوفييت في أفغانستان. وهذا دليل على أن النصر العسكري لا يضمن نصراً سياسياً أو استراتيجياً”. لم تعصم هذه القاعدة المعروفة الرئيس الأمريكي جورج بوش من مغامرته العراقية، وربما تسير أفغانستان على الطريق نفسه فتكون قد أكدت القاعدة مرتين، واحدة مع السوفييت والثانية مع الأمريكيين.

ليست حروب النصف الثاني من القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة استثناء في “علم الحرب”، الذي وضع أسسه الجنرال البروسي “كارل فون كلاوزفيتز” والصيني “سون زو” وآخرون. فهي مصنفة في خانة الحروب غير المتكافئة التي يتجابه فيها طرف فائق القوة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، وطرف محدود التسلح لكنه يتمتع بعناصر قوة معنوية تعظم سلاحه وفي طليعتها قوة الإرادة والشجاعة العالية والتعبئة الأيديولوجية والقدرة على التنظيم والتخفي، ناهيك عن الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس.

وتندرج الحرب في غزة في هذا الإطار تماماً كحرب يوليو/ تموز عام 2006 في لبنان. وهي جديرة بالقراءة في السياق المنهجي المذكور وليس بطرق سجالية أو أحكام مجاملة أو عدائية مسبقة. وعليه لابد من العودة إلى كلاوزفيتز (في بحث ريمون ارون الجزء الأول حول العصر الأوروبي. صادر عن دار غاليمار عام 1976)، لقياس ما إذا كانت حرب غزة “عبثية” كما يؤكد بعض المعارضين للتيار المقاوم أم فعلاً تأسيسياً في الصراع المصيري حول فلسطين.

يؤكد كلاوزفيتز أن “ميزان القوى مهم لكن يجب أيضاً الأخذ في الاعتبار العناصر المعنوية، فالاستراتيجية لا تملي بالضرورة على الطرف الضعيف أن يعتبر أن لا شيء ما يفعله غير الاستسلام، بل العكس تماماً فالاستراتيجية تملي عليه أن يعوض ضعفه المادي بتعظيم العناصر المعنوية التي يتمتع بها” (ص 86) وفي موضع آخر يقول “فن الحرب لا يقتصر على حساب التكلفة والربح” (ص 87).

إن الناظر إلى ميزان القوى العسكري بين المقاومة و”إسرائيل” مجبر على اعتماد واحد من خيارين: التسليم بالفارق العسكري الهائل والاتعاظ من التكلفة العالية للمجابهة، وبالتالي القبول بالشروط “الإسرائيلية”، أو اعتماد الخيار المقاوم وبالتالي الاتعاظ من دروس “علم الحرب” ومن التجارب المذكورة آنفاً.

والواضح أن التيار المقاوم اعتمد هذا الخيار في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي سقط مسموماً وفي غزة وما الحرب الأخيرة إلا من هذا الأثر. ويرى كلاوزفيتز أن الطرف الأضعف في الحرب يعتمد أسلوب الدفاع وليس الهجوم، ذلك لأن القتال الدفاعي يعطي المدافع أفضلية نسبية على المهاجم (ص 87) وهو ما وقع في غزة حرفياً.

وفي مكان آخر يتساءل الجنرال الألماني “... كيف يمكن حمل العدو على رفع تكلفة الانتصار في حربه؟” ويجيب “.. عبر إجباره على نشر قوات أكبر أو إصابة قواته بضرر كبير أو السيطرة على جزء من أرضه أو اجتياح بعض محافظات العدو من أجل إحداث ضرر فيها، وليس من أجل الاحتفاظ بها أو نهبها أو تدميرها. إنهاك العدو عبر استنزاف قواته وإضعاف إرادته عبر إطالة المعركة لحمله على التخلي عن الأهداف التي رسمها للحرب” (ص 136).

إن العودة إلى تفاصيل حرب الأسابيع الثلاثة الأخيرة تبين بوضوح أن الصواريخ التي أطلقت على المستوطنات كانت في إيقاعها المنتظم، رغم جحيم القصف واستعراض القنابل الفوسفورية في سماء غزة، تشل جبهة العدو وتضعف إرادته وتتحدى آلته العسكرية وذلك لحمله على الاقتناع بلا جدوى المعركة، وهو ما وقع بالفعل.

ويوضح كلاوزفيتز في مكان آخر “.. حين لا يمكن طرح العدو أرضاً أو تدميره، يكون الرهان على من يستنزف أولاً”. بعبارة أخرى فالرهان “.. ليس قصم ظهر العدو بقدر توفير القوة الذاتية والاحتفاظ بعناصر مفاجئة في المعركة” (ص 141). وغير محسوبة مسبقاً. والراجح أن المقاومة في غزة اعتمدت هذه القاعدة في القتال، فهي اقتصدت في التضحية بمقاتليها حيث لا تكون لها أفضلية القتال أو حيث يمكنها القتال بشروطها، ولم تعبأ بالتصريحات الاستفزازية حول لجوء قيادتها ومقاتليها إلى الأنفاق.

ويستفاد من تصريح لأسامة حمدان في اليوم الأخير من المعارك أن المقاومة “استخدمت سلاحاً جديداً “مفاجئاً” ربما كان بين الأسباب التي حملت “إسرائيل” على إعلان وقف النار”. ويستفاد من قاعدة أخرى في علم الحرب أن النصر فيها نادراً ما يكون مطلقاً، والهزيمة أيضاً لا تكون مطلقة، ولعل المنتصر فيها إن جاز التعبير هو “الذي يقول كلمته في ربع الساعة الأخير”، وهنا أيضاً يلاحظ أن المقاومة واصلت إطلاق صواريخها على المستوطنات بعد ساعات طويلة من إعلان “إسرائيل” وقف النار من طرف واحد. وقد عاودت “إسرائيل” إطلاق النار من البوارج الحربية لكن خارج سياق الحرب، أي بعد أن ختم الكلام فيها.

تبقى الإشارة إلى القاعدة الأساسية للحرب بحسب كلاوزفيتز فهي “عمل عنيف يهدف إلى فرض إرادة طرف على طرف آخر”، بالقياس إلى هذه القاعدة يلاحظ أن المقاومة لم تتخل عن أي من شروطها في حربها الدفاعية عن غزة في حين فشلت “إسرائيل” في حربها الهجومية في فرض إرادتها وأي من شروطها على المقاومين. أقله حتى كتابة هذه السطور.

أما عن الخسائر المدنية وأضرار البنية التحتية الفلسطينية فهي جسيمة إلى حد أن “إسرائيل” تبذل جهوداً حثيثة لحماية جنودها من العقاب الدولي بتهمة ارتكاب جرائم حرب.. وذلك للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي “الإسرائيلي”.

لم تطرح المقاومة “إسرائيل” أرضا في حرب غزة لكنها استخدمت بطريقة مدهشة قواعد حرب الضعفاء، ولعل عدوها يدرك ذلك بدقة، في حين أن عدداً من بنيها الأقربين والأبعدين استبطنوا ثقافة حتى صاروا لا يرون ولا يفقهون.
"الخليج"

التعليقات