31/10/2010 - 11:02

كيف تفكر الصين؟../ جميل مطر

كيف تفكر الصين؟../ جميل مطر
على الرغم من كل ما تعرض له جيلنا من نكسات ومشاق، سوف تحسدنا أجيال قادمة على أننا الجيل الذي عاش تجارب دولية عظمى. كان شاهدا على السقوط المتزامن للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية وانحسار الاستعمار الأوروبي مفسحاً المجال لصور أخرى من الهيمنة الغربية. ثم عشنا يوماً بيوم تجربة سقوط الإمبراطورية السوفيتية، أو بمعنى أدق، سقوط الإمبراطورية الروسية في نسختها الشيوعية.

ونشهد الآن صعود الصين. نشهد بعيون غربية وفي آن آخر بعيون شرقية. تبدو الصين لنا أحياناً ورشة عمل عظمى. وتبدو في أحيان أخرى مستودعاً لاحتياطي هائل من بشر منتج وسلع جاهزة للتصدير إلى أي مكان ولاستهلاك أي نوع من أنواع الناس وتبدو أيضا بيئة خصبة لكافة أشكال الكوارث الطبيعية والمشكلات الاجتماعية ولعلها في الوقت نفسه صارت في نظر الكثيرين الخزانة الأكبر في العالم لأضخم احتياطي نقدي تراكم في أي مرحلة من مراحل التاريخ.

ومع ذلك مازالت الصين غامضة وصعبة على الفهم. نحن لا نعرف إلا القليل جدا مما كان يجب أن نعرفه عن طموحات قيادتها الحاكمة وأهدافها متوسطة أو طويلة الأجل. لا نعرف الكثير عن تفاصيل حلول تبتدعها للمشكلات المصاحبة للصعود. ولم تتح لنا ولا لغيرنا في الغالب فرصة التعمق في فهم ودراسة العقيدة الإستراتيجية للقيادة التي تسيّر عملية الصعود والنهضة. نحن لا نعرف حتى الآن بأي درجة من الثقة كيف ترى الصين نفسها، لم تفصح بعد عن رؤيتها لنفسها ورؤيتها لمكانتها ودورها بين الأمم في الحاضر والمستقبل وأدوات تحقيق هذه الرؤية. بدأنا منذ سنوات قليلة نبذل جهدا لنعرف كيف يفكر صناع الصين الناهضة، بحثنا عن الأسس التي يعتمدون عليها في تخطيط مشاريعهم، وانشغلنا لبعض الوقت في عملية شديدة التعقيد وهي محاولات تقدير نسبة ما اختاروه من عقائدهم القديمة وتراثهم الفكري والبيروقراطي والثقافي إلى ما اختاروه من فلسفة الغرب وأيديولوجيته وقواعد تنظيمه وأساليب إدارته للمشاريع، وركزنا اهتمامنا على أصعب المهام وكانت تتعلق بمستقبل مسارات السياسة الخارجية الصينية على ضوء اطراد هذه النهضة وإن كان مصيرها الحتمي الهيمنة على شعوب أخرى كما حدث في تجارب صعود أمم أخرى على مدار القرون.

الكثيرون من أبناء جيلي لا يعرفون عن الصين الناهضة الشيء الوفير، فقد عزلت أو انعزلت لأكثر من قرن وغابت عن وعي العالم باستثناء مرحلة ركزت خلالها في العمل عن بعد على تشجيع الشعوب للحصول على استقلالها. ولا شك أن المسافة الجغرافية لعبت دوراً كبيراً في شعورنا بهذا الغياب. من ناحية استطاعت اليابان في القرن العشرين احتكار الانفراد بتجسيد أفكار النهضة الآسيوية وقدمت نموذجا تأكد بمرور الوقت أنه غير قابل للتقليد أو التماهي في أي مكان آخر.

ولا يمكن الحديث عن نهضة الصين إلا بالعودة إلى الثورة الوطنية والتحديثية التي أطلقها الزعيم صان يات صين قبل أن يحبطها التدخل الأجنبي والحروب الأهلية وعصابات الأفيون. وبعدها نشبت الثورة التحديثية الثانية بقيادة ماو تسي تونج.

في هذه المرحلة نجحت نخبة الحكم في غرس نظام للقيم في شعب كان فاقداً لها. كانت سنوات ما قبل الثورة فترة انعدمت فيها أخلاقيات الإنتاج والعمل وحب الوطن. وفي أقل من خمسة وعشرين عاما كان الشعب الصيني جاهزا لجني ثمار الجهد والمعاناة خلال سنوات بناء منظومة قيم حضارية. كانت الأمة جاهزة للعطاء. لذلك كان تطورا طبيعيا ومنطقيا أن تبدأ النخبة الحاكمة مرحلة الانطلاق الاقتصادي بتجميع الجهود الإبداعية والاستقصاء عن تجارب الآخرين في النهضة والتعلم منها بعيداً عن قيود بيروقراطية الحزب وبيروقراطيات الدولة، وكانت وسيلتها التوسع في إقامة مراكز للبحث العلمي وتطوير القائم منها.

كان تطوراً طبيعياً، إذ لم تنشد أمة الرفعة والتقدم إلا وجاءت في صدارة برامجها تعبئة رجال الفكر والعلم والبحث من ناحية ومن ناحية أخرى إقامة صناعة سلاح مؤهلة لأن تستوعب حصيلة هذه الأفكار والبحوث وتعيد بث مخرجاتها التكنولوجية إلى القطاع المدني مزودة بالتجربة والخبرة والطاقة البشرية الكفؤة.

في أقل من عشرين سنة، أقيمت بالصين المئات من مراكز البحث، بل إن الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، كانت قبل انطلاقة الثمانينات لا تقوم بدور يذكر في مجال البحوث، صارت تضم الآن خمسين مركزاً للبحث يتخصص في 26 فرعاً وعلماً ويشتغل بالبحث فيها حوالي 4000 باحث متفرغ.

قارن هذا الرقم ببريطانيا حيث لا يتجاوز عدد الباحثين في مراكزها المئات، وفي كل أوروبا لا يتجاوزون الألوف وفي الولايات المتحدة يصل الرقم إلى حوالي 10.000 باحث، بينما في الصين مركز واحد يضم أربعة آلاف باحث بخلاف المئات من المراكز في شتى الأنحاء والتخصصات.

وينقسم الباحثون الصينيون إلى يمينيين جدد وليبراليين مؤمنين بحتمية العولمة وضروراتها. ولكن يجتمعون حول معضلة أساسية، لعلها المعضلة الأهم في نهضة الصين: كيف يمكن الاستفادة من السوق العالمية من دون تعريض الصين لأخطار التدمير الخلاق المصاحب حتما لعملية الاندماج في السوق العالمية.

والمؤكد في كل الأحوال أن التحول الذي حدث في الصين من اقتصاد اشتراكي إلى اقتصاد سوق يعود الفضل فيه إلى حد كبير إلى التيار اليميني الذي هيمن لفترة على أنشطة البحث والدراسة، فمن بين هؤلاء خرج باحثون استطاعوا إقناع أعضاء المكتب السياسي بضرورات التغيير من خلال “جلسات درس” متعددة على نمط جلسات الاستماع التي يعقدها الكونجرس الأمريكي، وكذلك من خلال أوراق بحثية تناقش خطوات تنفيذ الخطة الخمسية. لم يتخف باحث أو مسؤول وراء كلمة إصلاح. كان الحوار الوطني صريحا وأمينا ومباشرا.

وقد نقل زائر عن باحث صيني كبير بعض تفاصيل تجربة الانتقال من الاقتصاد الاشتراكي إلى اقتصاد السوق وخلفياته. ومثل غيره من الأجانب انبهر الزائر بشغف الصينيين بالقصص الفولكلورية والأساطير لتقريب أفكارهم إلى ذهن المستمع. كان السؤال الذي وجهه الزائر إلى البحث الصيني يتعلق بالكيفية التي جعلت الشعب الصيني وقياداته في الريف والمصانع تتقبل الانتقال إلى الاقتصاد السوقي.

روى الباحث الصيني المخضرم، في محاولته تقديم إجابة عن السؤال، حكاية عن قريتين عاشتا جنباً إلى جنب ردحاً من الزمن. كانت الأولى تعتمد على الخيل في إدارة شؤونها حتى جاء يوم عرف شيوخ القرية الأولى أن القرية المجاورة التي تعتمد في إدارة شؤونها على الحمير الوحشية تعيش أحوالا معيشية أفضل. فما كان من شيوخ القرية الأولى، التي تعتمد على الخيل، إلا أن نظموا حملة توعية بين سكان عاشوا حياتهم معتقدين كما اعتقد جدودهم بأن الخيل هي الأفضل في إدارة شؤون القرية لإقناعهم بالاستعانة بالحمير الوحشية بديلا للخيل جاء الرفض من جانب السكان قاطعاً وعنيداً، فالخيل عندهم لها مكانة تقترب من التقديس. وبعد وقت غير قصير لجأ الشيوخ إلى خطة عبقرية. ففي ذات ليلة، وبعد أن أوى سكان القرية إلى بيوتهم للنوم ودخلوا في سبات عميق، جمع الشيوخ خيول القرية ورسموا عليها خطوطاً سوداء فبدت تماماً كالحمير الوحشية. وأفاق السكان في صباح اليوم التالي ليجدوا حميراً وحشية تدير شؤونهم فاحتجوا وهددوا بالتمرد، ولم يهدأوا إلا حين أقسم أمامهم شيوخ القرية أن ما يرونه أمامهم ويدير شؤونهم ليست حميرا وحشية بل هي خيولهم نفسها ولكن بخطوط سوداء.

صدق الناس واعتادوا على منظر خيولهم في لباس حمير وحشية بينما كان الشيوخ يستبدلون أثناء الليل الخيول بحمير وحشية حقيقية. وبمرور الوقت زاد عدد الحمير الوحشية وتقلص عدد الخيول وهيمنت الحمير الوحشية على عملية إدارة شؤون القرية، وحل الرخاء محل الفقر وسادت السعادة واختفت الكآبة، فاجتمع الشيوخ وقرروا دعوة أهل القرية ليعلنوا على أسماعهم أن الحمير الوحشية هي التي تدير شؤونهم وليس الخيل وإن الحمير جيدة والخيل رديئة وسيئة.

ولا يخفي الباحثون الذين روجوا لهذه الحكاية أن القرية موضوع الرواية الفولكلورية هي في الواقع مدينة “شينزين”. والمعروف أن شينزين اشتهرت منذ بداية عملية التغيير بأنها “المدينة التجربة” أو المدينة النموذج التي اختارها قادة التغيير عام 1979 لتكون “منطقة اقتصادية خاصة”. وكان المنطق وراءها، كالمنطق وراء فكر اليمين الجديد في الصين، وربما خارج الصين أيضا، تلخصه عبارة الزعيم الصيني الراحل دينغ شاو ينغ ونصها: “بعض الناس يجب أن يغتني أولاً”، وتعيد صياغته حكمة صينية تقول “أفضل للصين أن يكون لكل إقليم من أقاليمها مطبخه المستقل عن أن يكون لكل الصين مطبخ واحد”.

ولن يقدر هذه الحكمة إلا من عاش في الصين أو اعتاد ارتياد المطاعم الصينية الأصيلة وأجاد فن تذوق أكلاتها والتمييز بينها على أساس مكوناتها والإقليم الذي اشتهر بطهوها.
"الخليج"

التعليقات