31/10/2010 - 11:02

لماذا الإلحاح على يهودية الكيان الصهيوني؟../ يوسف مكي

لماذا الإلحاح على يهودية الكيان الصهيوني؟../ يوسف مكي
منذ نكسة يونيو/ حزيران ،1967 أصبحت مناقشة مسألة يهودية الكيان الصهيوني، موضوعاً أثيراً لدى الأحزاب السياسية "الإسرائيلية". ولعل الإلحاح على يهودية الكيان الصهيوني، والتمسك بأن يكون غالبية سكانه من اليهود أحد الأسباب التي حالت دون ضم الأراضي الفلسطينية. وقد برز ذلك بوضوح في مناقشات حزب العمل "الإسرائيلي" أثناء انتفاضة أطفال الحجارة، حيث أكد أهمية قيام كيان فلسطيني، يكون مرتبطاً بشكل غير مباشر ب"إسرائيل"، ويضمن بقاء الفلسطينيين إلى الأبد أقلية في الأراضي الفلسطينية التي ارتبط احتلالها بالنكبة الفلسطينية.

في الأيام الأخيرة تكررت تصريحات لمسؤولين صهاينة، من ضمنهم رئيس الحكومة، إيهود أولمرت، ووزيرة خارجيته، تسيبي ليفني مؤكدة على الصفة اليهودية ل "إسرائيل". اختيار هذا التوقيت بالدقة لإطلاق هذه التصريحات هل هو أمر اعتباطي، أم أنه مدروس؟

شكل وعد بلفور، عام ،1917 الركيزة الأساسية في تنفيذ المشروع الصهيوني، فقد أشار إلى أن الحكومة البريطانية "تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين"، وأنها "ستبذل غاية جهدها لتحقيق هذه الغاية".

وتوالت هجرات اليهود إلى فلسطين، ومعها تسارع تتالي الحوادث، وصدر قرار التقسيم 181 عن مجلس الأمن الدولي في نوفمبر/ تشرين الثاني ،1947 قسمت بموجبه أرض فلسطين، وعومل السكان الأصليون بندية مع غرمائهم الغرباء اليهود، الذين لم يتجاوز تعدادهم ال 7% حسب إحصائيات الأمم المتحدة، فقسم فلسطين بالتساوي بين اليهود والسكان الأصليين.

ومرة أخرى، كان البريطانيون، وفقاً لوثائق كشف عنها مؤخراً، هم الذين حالوا دون نجاح قرار التقسيم، حين شجعوا الحكام العرب، الذين ما زال بعضهم أثناء الحرب تحت الوصاية البريطانية على الدخول في معركة غير متكافئة مع الصهاينة، انتهت بقضم أجزاء كبيرة من الأرض من حصة الفلسطينيين، ولم يتبق من فلسطين التاريخية خارج السيطرة الصهيونية عدا مدينة القدس والضفة الغربية، وغزة. وقد سقطت جميعها في حرب يونيو/ حزيران عام 1967.

خلال احتلال الصهاينة، منذ عام 1948 حتى يومنا هذا، برزت حقائق جديدة، أصبحت مثار رصد واهتمام من قبل الصهاينة. وبضمن تلك الحقائق صمود من بقي في فلسطين عام 48 تحت الاحتلال، واستحالة اندماجهم ثقافة وهوية بالكيان الصهيوني. وقد تمكنوا من خلق مؤسساتهم الخاصة، المعبرة عن تطلعاتهم، وبرزت من بينهم قيادات جديدة، استطاعت أن تنقل للعالم صوراً عن معاناة الفلسطينيين في الداخل، وعن الممارسات العنصرية التي يتعرضون لها. ومن بين هذه الحقائق، كان تنامي أعداد الفلسطينيين، الذي تجاوز ال 20% من تعداد سكان "إسرائيل" هو الحقيقة الأمر والأصعب. وقد شكل ذلك هاجساً كبيراً بالنسبة للصهاينة.

ومن جهة أخرى، تحول النهج الفلسطيني، منذ منتصف السبعينات، من مقاومة تطرح تحرير الأرض من النهر إلى البحر، إلى القبول بتسوية سياسية على أساس وجود دولتين مستقلتين على أرض فلسطين: دولة "إسرائيل" في الحدود التي كانت قائمة بها حتى عدوان يونيو ،1967 ودولة فلسطينية تقام في أراضي الضفة والقطاع، ويكون القدس الشريف عاصمتها.

وكانت أعداد الفلسطينيين في الشتات تتضاعف هي الأخرى، من دون أن يضعف تقادم الزمن من جذوة حنينها في العودة إلى فلسطين.

رأى الصهاينة بأم أعينهم كيف فشلت المحاولات الأخيرة لإيجاد مواطن أوروبية استيطانية في الجزائر وجنوب أفريقيا، وكيف انتهت نضالات السكان الأصليين إلى انتزاع حريتهم واستقلالهم. وكانوا من قبل يعللون النفس أن كيانهم الغاصب سيكون قادراً على تذويب الهوية الفلسطينية، كما تمكن الأوروبيون الذين هاجروا إلى أمريكا وأستراليا، حيث فرضت الهوية الأنجلو ساكسونية في أمريكا الشمالية، وأجريت كرنفالات الفرح بنجاح تجربة "إناء الصهر"، الذي دمر كل ثقافات ذلك الجزء من العالم، لتبقى ثقافة الأسياد وحدها المهيمنة.

ثبت للصهاينة أن الثقافة العربية، كما هي ثقافة الآسيويين والأفارقة، عصية على التذويب، وأن اندماج الفلسطينيين بالمشروع الصهيوني عمل مستحيل. وكان شعار "الدولة الفلسطينية المستقلة"، قد أتاح مخرجاً مقبولاً لتحقيق معجزة عبور عبرانية، من نوع آخر. فهذه الدولة ستكون المعبر للتسلل الاقتصادي الصهيوني إلى البلدان العربية، بعد تحقيق "السلام" بين مختلف الأطراف.

وسيتواجد كيانان على أرض فلسطين، أحدهما يهودي يخص جميع اليهود في أنحاء العالم، والآخر فلسطيني يخص الفلسطينيين، في أنحاء العالم أيضاً. وبموجب هذا الفصل التعسفي، تصبح قضية حق العودة مسألة تخص الدولة الفلسطينية المنتظرة، وليس للصهاينة شأن بها، وأن من حق كل دولة سن القوانين والتشريعات على أرضها، دونما تدخل من أي طرف آخر. وبموجب ذلك، تصبح قضية يهودية "إسرائيل" مسألة داخلية، كما أشار إلى ذلك رئيس السلطة الفلسطينية، أبو مازن، وكبير مفاوضي الفريق الفلسطيني الدكتور صائب عريقات.

ليس ذلك فحسب، بل إن الفلسطينيين الذين تمسكوا بأرضهم، في حيفا ويافا، والناصرة وبقية المدن الفلسطينية، التي تشكل الآن جغرافية الكيان الغاصب، سيصبحون ضمن الرؤية الجديدة جالية فلسطينية مقيمة في دولة "إسرائيل". يخضعون كمقيمين، وليس كمواطنين، لأنظمتها وقوانينها، وتملك حق تهجيرهم في أي وقت تختاره.

إن الأراضي التي احتلها الصهاينة، بموجب هذه التصريحات، هي لليهود فقط. وإذا ما أعطيت لهذه التصريحات أبعادها القانونية والسياسية، وجرى الاعتراف بها على الصعيد الدولي، فإن ذلك يعني إسقاط كل الحقوق الفلسطينية في تلك الأراضي، بما في حق العودة وتقرير المصير، وهي حقوق بقيت مضمونة حتى الساعة بموجب القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. وهي فوق ذلك كله، محاولة خطير من أجل خلق مناخ دولي وإقليمي مناسب لطرد بقية الفلسطينيين الصامدين من ديارهم.

إن موافقة السلطة الفلسطينية على يهودية "إسرائيل" ستؤدي إلى بقاء اللاجئين الفلسطينيين في مخيماتهم إلى ما لا نهاية. ففلسطين الضفة والقطاع لن يكون بمقدورها استيعاب ملايين الفلسطينيين بالشتات. وستكتفي دولة السلطة الفلسطينية بتقديم وثائق الهويات وجوازات السفر، وتسهيل إجراءات الترحال لشعب قدره أن يعيش في المنافي، ما لم تتغير معادلة الصراع. وسوف تسهم هذه التطورات في التعجيل بمشاريع توطين الفلسطينيين بالأماكن التي يوجدون فيها، والتي تواجه عقبة كأداء الآن نتيجة لرفض العرب تصفية حق العودة، كما ستكون المقدمة لتحقيق تطهير عرقي، يجعل من "إسرائيل" كياناً يهودياً خالصاً، لتتحقق فرادة أخرى للصهاينة تضاف إلى فرادات "الهولوكست" و"الشعب المختار"، وأساطير التاريخ والوعد الإلهي بحيازة فلسطين، مجسدة صورة دراماتيكية للعقيدة الصهيونية، من حيث تفوقها في عنصريتها، من دون منازع.
"الخليج"

التعليقات