31/10/2010 - 11:02

لماذا لا تناقش السلطة حلّ ذاتها؟../ ماجد كيالي

لماذا لا تناقش السلطة حلّ ذاتها؟../ ماجد كيالي
باتت السلطة الفلسطينية، في هذه المرحلة، في وضع لا تحسد عليه، فثمة انقسام في كيانها، وأزمة سياسية بين أكبر حركتين وطنيتين، وحركة فتح (وهي حزب السلطة) تواجه مشكلات داخلية كبيرة وخطيرة، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية جد صعبة. وعلى الصعيد الخارجي لا تبدو الأوضاع أفضل، فالقضية الفلسطينية تراجعت في الأولويات العربية والدولية لصالح قضايا أخرى (سياسية واقتصادية)، ضمنها مشكلات العراق ولبنان ودارفور ومكافحة الإرهاب، وتزايد نفوذ إيران الإقليمي؛ هذا عدا عن الأزمة الاقتصادية المستفحلة في العالم.

إزاء هذا الوضع الصعب والمعقد تحاول السلطة (بقيادة عباس ـ فياض) تصريف أوضاع ساحتها في مسارين، الأول، يتمثل بتحقيق نوع من استقرار أمني واجتماعي واقتصادي في الضفة (بعد إغلاق قطاع غزة بحكم هيمنة حماس هناك)، للإيحاء للفلسطينيين بأنه ثمة مكسب من التهدئة.

والثاني يتمثل في حثّ المفاوضات مع إسرائيل، في ثلاثة مواضيع: أولها، إعادة الأوضاع إلى ماقبل أيلول/سبتمبر (2000)، وتمكين السلطة من إدارة المناطق (أ) و (ب)، بعد سحب القوات الإسرائيلية منها. وثانيها، وضع حد للتوسّع الاستيطاني، الذي تصرّ إسرائيل على الاستمرار به في الضفة والقدس، رغم ما في ذلك من إحراج للسلطة. وثالثها، السير في مفاوضات جانبية ـ سرية، للتوصل إلى اتفاق رفّ، بشأن قضايا الحل النهائي، يتم تنفيذه بالتدريج، وبحسب توفر المعطيات المناسبة عند الجانبين، وعلى الصعيدين العربي والدولي.

وإذا تجاوزنا الوضع الداخلي على أهميته، لاستقرار وسلامة المصالح الفلسطينية، فثمة شكوك كبيرة، حتى في أوساط القيادة والسلطة، إزاء حقيقة النوايا الإسرائيلية. فعلى ضوء الخبرة التاريخية ثمة خشية حقيقية من محاولة إسرائيل تجيير الأوضاع الداخلية والإقليمية والدولية، المتأزمة، لفرض املاءاتها في العملية التفاوضية ونزع اكبر قدر من التنازلات. أما البديل عن عدم نجاحها بذلك، فيتمثّل بفرض مزيد من الوقائع، كما هو حاصل، بالاستمرار ببناء الجدار الفاصل، وتعزيز المستوطنات، والإمعان بتهويد القدس، وترسيخ سيطرتها على حياة الفلسطينيين؛ وربما فرض نوع من حل أحادي جديد في الضفة، يحصر الفلسطينيين وراء الجدار، والانفصال عنهم وفق مقولة: "نحن هنا وهم هناك."

في مواجهة ذلك باتت تخرج بعض الأصوات الجريئة، ضمن الوسط السياسي، ولاسيما في أوساط المثقفين الفلسطينيين المستقلين (عن الفصائل)، تقترح الخروج من الإطارات الحالية للعملية التفاوضية، بعد أن استهلكت، وبعد أن فرغتها إسرائيل بالذات من مضمونها، إلى البحث في خيارات أخرى، من مثل التحول من خيار "الدولتين"، إلى خيار إقامة دولة واحدة في فلسطين التاريخية، "ثنائية القومية" أو دولة ديمقراطية علمانية أو بمعنى آخر "دولة مواطنين".

وتعلل هذه الأصوات هذا التحول بالاستعصاء الحاصل في عملية التسوية، والتملصات الإسرائيلية منها، وانسداد أفق قيام دولة مستقلة، ذات تواصل وقابلة للحياة، في الأراضي المحتلة عام 1967، خصوصا أن هذه الخيار بات له من العمر 35 عاما! كما تعتقد بأن شرعية هذا التحول تنبثق من رفض إسرائيل الإقرار بكونها دولة استعمارية، تحتل أراضي الفلسطينيين (في الضفة والقطاع على الأقل!)، واعتبارها أن هذه الأراضي متنازع عليها، بل إن حقّها في هذه الأراضي يفوق حق الفلسطينيين ("أرض الميعاد")!؛ بدليل تعزّز الاستيطان بعد اتفاق اوسلو (1993)، في مسعى لتهويد القدس والضفة، وبدليل بناء الجدار.

أيضا، ترى هذه الأصوات بأن التحول من هدف الدولة المستقلة، بالانفصال عن إسرائيل، إلى خيارات أخرى، ينبثق من أن خيار الدولة الواحدة، ربما يجنّب الفلسطينيين مخاطر تمزيق أرضهم التاريخية، ويمكنهم من إعادة صوغ وحدتهم كشعب فيها. ومعلوم بأن خيار الدولة المستقلة لا يتضمن "حق العودة" للاجئين، فهذا الحق ستتم ممارسته في الكيان الفلسطيني المفترض (في الضفة والقطاع)؛ وليس ثمة في موازين القوى والمعطيات الدولية والعربية السائدة ما يؤكد خلاف ذلك؛ بحكم أن الحركة الوطنية لا تستطيع تحقيق هدف الدولة والعودة في ذات الوقت، خصوصا في ظل الأوضاع والمعطيات السائدة. وهذه حقيقة يتم "التشاطر" لحجبها والتغطية عليها للترويج لخيار الدولة المستقلة. كذلك فإن هذا الخيار يخرج فلسطينيي 48 من مفهوم الشعب الفلسطيني، وفي حالات أخرى يمكن أن يفتح على خيار اقتلاعهم من أرضهم وتهجيرهم إلى الدولة الفلسطينية المفترضة، وعلى الأقل يمكن أن يشجّع على نزع المواطنية الإسرائيلية عنهم.

طبعا ثمة نوع من المحاكمة المنطقية في كل هذه المجادلات، لكن مسارات الأمور لاتتم على الورق فقط، فالحياة أكثر تعقيدا من ذلك. بمعنى أن التحول عن خيار الدولة المستقلة يمكن أن يفتح على مسارات أخرى مغايرة، ليست على البال ربما، ولا تتعلق بخيار الدولة الواحدة (ثنائية القومية أو دولة المواطنين).

من هذه الخيارات مثلا، المراوحة عند الوضع الحالي، بتعميق إسرائيل وجودها في الأراضي المحتلة بمختلف الأشكال، وتعزيز السيطرة على حياة الفلسطينيين. والخيار الثاني يتمثل بدفع المسيرة التفاوضية نحو إقامة دولة فلسطينية بحدود مؤقتة، مع "اتفاق رف"، بشأن قضايا الحل النهائي (اللاجئين والحدود والمستوطنات والقدس والترتيبات الأمينة). وثمة خيار ثالث، بديل (كما قدمنا) يتمثل بالإقرار بوجود دويلة معزولة في قطاع غزة (طالما ظلت تحت هيمنة حماس)، مع شكل من أشكال الإدارة الذاتية في الضفة الغربية، تقوم مقامها السلطة. ولا يخفى في هذا النقاش أن ثمة خيارات أخرى إقليمية كامنة (مع الأردن مثلا)، ولكن هذا مرهون بالمعطيات الفلسطينية والعربية والدولية المناسبة.

لكن كما هو واضح من هذه الخيارات فإنها كلها، لاسيما في المعطيات الحالية، بحاجة لطرف فلسطيني، سلبي أو فاعل، بمعنى أنها بحاجة للسلطة الفلسطينية كجسم، وكأداة، وكحالة وجود لتمرير الأمر الواقع، أو للمضي في واقع كون السلطة تمارس نوعا من حكم ذاتي، أو للموافقة على الخيارات الأخرى.

يستنتج من ذلك بأن السلطة الفلسطينية كونها تمتلك أوراق القوة هذه، في المعطيات الراهنة، بامكانها قلب الطاولة، وتغيير المعادلات، إن من خلال التوجه نحو حل ذاتها، أو من خلال الإقرار بفشل خيارها الوطني المتمثل بالانفصال في دولة، والتحول نحو خيار وطني أخر يتمثل بالدولة الواحدة (ثنائية القومية ـ أو دولة المواطنين)، لوضع إسرائيل أمام تحد سياسي نوعي جديد.

وحينها ستجد إسرائيل نفسها أمام ساعة الحقيقة: فإما أن تقبل بترسيخ نفسها كدولة استعمارية تمارس التمييز العنصري ضد سكانها، غير اليهود، مع تداعيات ذلك عليها، أو أن تجد نفسها معنية بالتخلص من هذا الكابوس، المقترن بما يسمى الخطر الديموغرافي، الذي يشكل خطرا على هويتها اليهودية، بالتحول لدولة "ثنائية القومية" أو بتمكين الفلسطينيين من إقامة دولة مستقلة لهم.

في كل الأحوال فإن الوضع يتطلب من الفلسطينيين تغيير المعادلات السياسية القائمة، ولاشك أن ذلك يتطلب منهم إصلاح أوضاعهم، وتطوير بناهم، وإيجاد أشكال نضالية قادرة على حمل الخيارات الجديدة والاستمرار بها.

التعليقات