31/10/2010 - 11:02

لماذا يطمح العرب لأن يصبحوا خبراء في الشؤون الإسرائيلية؟../ د.جورج جقمان*

لماذا يطمح العرب لأن يصبحوا خبراء في الشؤون الإسرائيلية؟../ د.جورج جقمان*
لقد لاحظنا خلال العقدين الماضيين ازدياد الاهتمام العربي في السياسة الداخلية الإسرائيلية وتفاصيلها ومواقف الأحزاب المختلفة والسياسيين من الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي والصراع العربي - الإسرائيلي عموماً.

وقد انعكس ذلك في الترجمات من الصحف العبرية التي أصبحت تملأ الصحف العربية وظهور متخصصين في تلك الصحف في الشؤون الإسرائيلية، وارتفعت مكانة من يتقن فهم اللغة العبرية كإحدى امارات التخصص الفعلي وليس الهاوي فقط.

وأقول مباشرة حتى لا يفهم خطأ المقصد هنا، إن هذه بالاجمال ظاهرة إيجابية بمعنى أن المعرفة بالخصم ضرورية لأي طرف له نزاع معه وهي من أوليات الأمور، كما هو الحال في إسرائيل من تتبع ودراسة للدول العربية وما يحصل فيها وما يظهر في صحفها ومجلاتها.

المشكلة لا تكمن هنا، وتكمن في أسباب ومسببات هذا الاهتمام والتتبع. فمنذ عدة سنوات تحوّل العرب والفلسطينيون، رسميين وغير رسميين، إلى متتبعين ومراقبين للساحة السياسية الداخلية الإسرائيلية خصيصاً عشية الانتخابات المتكررة في إسرائيل، لعلّ وعسى أن تؤدي الانتخابات والتحولات المؤدية لها إلى ظهور حزب قوي "محب للسلام" يمكن إنجاز حل معه للصراع القائم.

والمشهد مشابه لجمهور مباراة كرة قد يشجع فريقاً على آخر، ويأمل ويبتهل أن ينال الفوز حتى يمكن تحقيق تسوية سياسية معه. المشكلة تكمن في أن العرب مشاهدين ومراقبين ومشجعين جهارة أو ضمناً يبتهلون في قلوبهم فوز فريق على آخر، لكن لا حول ولا قوة لهم للتأثير على النتائج.

وإنصافاً للعرب والفلسطينيين يجب القول أيضاً إن هذا هو حال الدول الأوروبية وحال الولايات المتحدة أيضاً. الولايات المتحدة؟ نعم، ويا للغرابة نظراً لما لديها من إمكانيات للتأثير على نتائج الانتخابات في إسرائيل من خلال اتخاذ موقف واضح وصريح عن ما هو مطلوب من إسرائيل. مثلاً إيقاف الاستيطان، أو الإعلان عن العناصر الرئيسية لأية اتفاقيات لإنهاء الصراع عملاً بالمواقف الرسمية للولايات المتحدة التي ما زالت تعتبر الضفة الغربية بما في ذلك القدس وغزة مناطق محتلة.

وقد بلغ الأمر في بعض الأوساط في إسرائيل ممن يرون أن الولايات المتحدة متقاعسة في الضغط على الحكومة والرأي العام في إسرائيل، ان طلبت صحيفة "هآرتس" في افتتاحية لها في نهاية شهر كانون الثاني من العام الحالي، أن تعلن الولايات المتحدة موقفها صراحة وجهارة من الاستيطان للتأثير على الناخب الإسرائيلي في الانتخابات القادمة. ولم تر الصحيفة أن في هذا تدخلاً سافراً في الشؤون الإسرائيلية وإنما رأت فيه الأمر الضروري خدمة لتحقيق إمكانية وجود حل سياسي وهو ما ترفضه أحزاب اليمين في إسرائيل.

يا للغرابة إذاً! كيف أصبح العالم أجمع متتبعاً ومراقباً ودارساً ومحللاً للشؤون السياسية الداخلية في إسرائيل، لكن دون حول أو قوة أو مقدرة فعالة على التأثير على سياق ما يجري؟ هذه هي القضية.

هذا هو التساؤل الذي يلزمه تفسير: كيف أصبح "السلام" قضية داخلية إسرائيلية بالرغم من المصالح الحيوية للدول المختلفة في إنهاء الصراع وبالرغم من المقدرة النظرية الموجودة لدى تلك الدول، بما في ذلك العربية، في التأثير على ما يجري في إسرائيل من حراك سياسي وازدياد قوة أو إضعاف أحزاب اليمين، التي لا حل لديها للصراع سوى طرد الفلسطينيين من أرضهم إن أمكن ذلك، أو حشرهم في معازل وسجون كبيرة محاطة بجدران وأسلاك شائكة ريثما تحين الفرصة لطردهم من أرضهم.

هذه هي القضية التي تستلزم التفسير. وأدعي أن أسبابها معروفة حتى لو تم تمويهها في كتابات عدد من المنظّرين الأميركيين، خاصة الصهاينة منهم، مثل القول إن إسرائيل حليف استراتيجي للولايات المتحدة، وهذا هو سبب دعمها، أو إن إسرائيل تشترك مع الولايات المتحدة في "القيم"، أو إن دعمها هو بسبب كونها دولة "ديمقراطية". هذا كلام هراء. فالدول كما هو معروف للقاصي والداني لا تقرر سياساتها الخارجية بناءً على مثل عليا أو غايات سامية وإنما بناءً على مصالح محددة. لكن في حالة إسرائيل المصالح تتعلق تحديداً بمصالح داخلية للسياسيين ولا تتعلق أساساً بمصالح الولايات المتحدة كدولة في جميع الحالات. فالمصالح المشتركة بين الولايات المتحدة وإسرائيل لا يمكن أن تفسر وحدها إحجام الولايات المتحدة عن أي ضغط فعال حتى في موضوع مثل الاستيطان الذي أضحى قاب قوسين أو أدنى من إغلاق الباب أمام حل الدولتين بالفهم المتعارف عليه فلسطينياً وعربياً ودولياً أيضاً، أي ليس "دويلة" ضمن المعازل.

فقد نجحت دولة إسرائيل بفعل عمل دؤوب ومستمر للقوى الصهيونية الضاغطة طوال عقدين من الزمن وما يزيد، داخل الولايات المتحدة، أن وضعت خطاً أحمر يفهمه جميع السياسيين سواء أكانوا في "الكونغرس" أم في الإدارة الأميركية، مفاده أن الضغط على إسرائيل هو أمر له عواقب وخيمة من بينها إنهاء الحياة السياسية لمن يتجرّأ على هذا.

لا متسع هنا لتوثيق هذا، ولكنه أمر معروف وكتب عنه الكثير وجرى توثيقه من قبل أكثر من باحث وكاتب ومحلل، بما في ذلك شهادات أعضاء كونغرس سابقين لم يعد انتخابهم بسبب اتخاذهم مواقف نقدية من السياسات الإسرائيلية.

والكتاب الأخير الذي ألفه "ولت" و"مدشهايمر" الأستاذان في جامعتي هارفارد وشيكاغو حول دور "اللوبي الصهيوني" ما هو إلا أحد الكتب التي تسعى لتوثيق دور القوى الصهيونية في الولايات المتحدة، والذي أثار ضجة مفتعلة من باب الهجوم المضاد نظراً لأنه كتبه أستاذان من داخل "المؤسسة الأكاديمية" وليس من قبل من يمكن تهميشهم بسهولة.

وكنتيجة لهذا "النجاح" تحول الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي والصراع العربي - الإسرائيلي عموماً إلى كرة قدم داخل الحلبة السياسية الداخلية في إسرائيل. ونظراً لأن حسابات الأحزاب والسياسيين في إسرائيل أسوة بغيرهم في دول أخرى، هي محلية، وانتخابية، ونفعية، وانتهازية أيضاً ذات أمد قصير، أي من سيربح الانتخابات القادمة، ومن له شعبية أكبر، ومن سيكون في الوزارة وما شابه، تحول الصراع إلى كرة قدم داخل هذا السياق يزايد فيه البعض على الآخر، استمالة للجمهور، خاصة بعد تحول ما يسمى "الأمن" إلى بقرة مقدسة في السياق الداخلي الإسرائيلي.

إن مقولة "الأمن" التي أضحت ركناً رئيسياً في السياق الإسرائيلي ومن ثم العسكري لها جذور تاريخية لا يتسع المجال للدخول فيها الآن. ولكن "الأمن" المطلوب أسبابه واضحة تاريخياً فمن يقوم بسرقة أرض شعب آخر واقتلاعه كشعب من أرض أجداده يعرف تماماً أن الطرف الآخر يراه كمغتصب ومدمر لمجتمع ولشعب مقتلع من أرضه. "الأمن" هنا إذاً هو الأمن في السرقة ونهب الأرض، الأمن للذي يعرف تماماً أنه الباغي والمعتدي والمقتلع والناهب. والكتابات الإسرائيلية نفسها شاهدة على ذلك.

إذاً، متى دخل الصراع في حلبة السياسة الداخلية الإسرائيلية، سيبقى الصراع داخل هذا النفق المظلم ولن يخرج منه، دون ضغط خارجي أو مقاومة. وهذا ما يعرفه الصهاينة في الولايات المتحدة. كذا هم يحاربون أي بوادر ضغط ممكن من قبل أي سياسيين أميركيين بضراوة شرسة. والنتيجة هي أن يبقى ملف الصراع داخل نفق السياسة الداخلية الإسرائيلية.

ومن الجلي، أن العجز العربي الرسمي بالرغم من مصادر القوة الممكنة نظرياً هو أحد أسباب إبقاء الصراع داخل الحلبة السياسية الداخلية في إسرائيل. ومن ثم، يبقى العرب والفلسطينيون معهم مراقبين مشاهدين يتتبعون ما يحصل في إسرائيل من حراك سياسي، متأملين ومبتهلين أن تؤدي نتائج الانتخابات إلى فوز من يمكن أن يكون "شريكاً" للسلام، متغافلين أن هؤلاء "الشركاء" هم أيضاً داخل اللعبة الداخلية، غير منفصلين عنها أو منفكين عنها، وأن الأمر لا يتعلق بالنوايا الشخصية وإنما بالمصالح الحزبية أو الفردية. وإن بقي هذا العجز العربي والأوروبي والأميركي قائماً لا حول ولا قوة له في التأثير على السياسة الداخلية الإسرائيلية، سيبقى الصراع داخل هذا النفق المظلم ولن يخرج منه دون ضغط خارجي أو مقاومة.

هذا هو الامتحان الذي يمثل الآن أمام إدارة الرئيس "أوباما". هل سيتمكن من الضغط على إسرائيل لغرض إنجاز حل الدولتين أم انه سيقع أسير الضغوط الصهيونية الداخلية لإبقاء الكرة في الملعب الداخلي الإسرائيلي، ويبقى العرب مشاهدين ومتفرجين ومراقبين ومبتهلين، لا حول لهم ولا قوة في الأثناء؟
"الأيام"

التعليقات