31/10/2010 - 11:02

لن تعتذر “إسرائيل” ولن يغفر العرب../ جميل مطر

لن تعتذر “إسرائيل” ولن يغفر العرب../ جميل مطر
لا أذكر أياماً عامرة بالتفاؤل على صعيد العلاقات الدولية مثل الأيام التي يعيشها الآن العالم الغربي. يعود الفضل في جانب منها إلى أوباما الشخص، ثم إلى أوباما الموجة التي كادت في أيام معدودة تقنع ملايين البشر بأنها ستكتسح أمامها الكثير من أكوام الشر التي تراكمت في عهد بوش الصغير. ولكن يعود جانب آخر من الفضل في انتشار مزاج التفاؤل إلى رغبة عارمة في معظم الدول للتغلب على الأزمة الاقتصادية العالمية. إذ يدرك الكافة أن استمرار الأزمة متفاقمة سيعود حتماً على شعوب العالم وحكوماتها بدمار هائل على كافة الأصعدة، لن يكون أقلها شأناً الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان.

كان الفلاسفة، ولا يزالون، في صدارة المفكرين الذين يذهبون بأفكارهم إلى أيام أبعد كثيراً أو قليلاً عن أيام يعيشونها بحثاً عن حلول لمشكلات يتصورون أنها ستتفاقم مع مرور الوقت أو لمشكلات يعرفون أنها حتماً ستطرح نفسها. يقرأون في الحاضر مؤشرات للمستقبل وينشغلون بالتفكير في هموم الإنسانية حاضراً ومستقبلاً. وأستطيع أن أتصور أننا سوف نشهد في السنوات وربما العقود القليلة القادمة اهتماما متزايدا بقضايا مختلفة في الدرجة أو النوع عن قضايا أثيرت في القرن العشرين، وأكثرها ربما متصل بحال التفاؤل وضرورة استثمارها للتغلب على مشكلات خلفها قرن شهد كساداً عالمياً رهيباً وحروباً عالمية مدمرة وأعاصير وعواصف شتى آخرها “تسونامي” الجشع والفساد المالي وتوحش النخبة الحاكمة في عدد كبير من دول العالم.

أتابع مثلا تيارا فكريا استطاع أن يحفر لنفسه مسارا ازداد رسوخا مع مرور الوقت. إذ ظهرت خلال السنوات الأخيرة وبحياء الدعوة إلى أن تقوم الدول التي أساءت إلى شعوب دول أخرى بالاعتذار لها عما ارتكبت من فظائع. وبالفعل وقعت تجارب، بعضها كان مثيراً ودافعاً لاهتمام أكبر بهذه الدعوة، ففي شرق آسيا حاولت معظم دول شرق وجنوب آسيا دفع حكومات اليابان لتقديم اعتذار علني لشعوب هذه الدول على الفظائع التي مارستها القوات اليابانية قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها. وتصدرت الحملة المعادية لليابان في الصين أنباء هذه الدعوة، وبالرغم من الخسائر المادية والمعنوية التي تسببت فيها هذه الحملة وغيرها من الحملات كما في الفلبين وكوريا لم تذهب طوكيو بعيداً في الاستجابة لضغوط هذه الشعوب، وحكوماتها، وبقيت مسألة الاعتذار تعصى على الحل.

ومنذ شهور قليلة، أعيد فتح ملف اعتذار فرنسا للجزائر عن الأساليب التي مارستها قوات الاستعمار الفرنسي على امتداد 130 عاما في الجزائر. هنا أيضا لم تصل الدعوة إلى نتائج مرضية للجزائريين واستمرت العلاقة الفرنسية الجزائرية تشوبها التعقيدات، ومعظمها يعكس حقيقة أساسية تجاهلها المفكرون طويلا، وهي أن الجزائريين كالصينيين كالفلبينيين كشعب التوتسي في رواندا كالهنود الحمر في أمريكا الجنوبية لم يغفروا للأطراف المعتدية ما ارتكبته في حقهم.

وفي كتاب بعنوان “المغفرة: استطلاع فلسفي..” يضع الفيلسوف الأمريكي شارل جريزوولد ستة شروط ليكون العفو أو الصفح كافياً لتحقيق “التصالح” المنشود بين الأمم، هذه الشروط هي: أولاً، اعتراف الدولة المعتدية، أي الدولة التي مارس شعبها أو حكوماتها السابقة أو جماعات متطرفة فيها أعمالاً شريرة بارتكاب هذه الأعمال. ثانياً، إدانة هذه الأعمال وكافة الممارسات التي جرت في حق الضحية بكل قوة وصدق. ثالثاً، التعبير عن الأسف الشديد عما لحق بالضحية من أذى مادي ومعنوي وحضاري. رابعاً، إعلان الالتزام بعدم تكرار ممارسة هذه الأعمال ضد الضحية نفسها أو أي طرف آخر. خامسا، تقديم ما يثبت توافر القدرة على التعبير عن التعاطف مع الضحية وآلامها ومعاناتها في الماضي بسبب ما اقترف الآباء أو الأجداد في حقها. سادساً، إعادة تصوير عمليات الإبادة أو القهر الجماعي والقتل المتعمد والتعذيب تماما كما مورست ضد الضحية، وبث هذا التسجيل مزوداً بالوثائق، بما يؤكد أن المعتدي مدرك وواع تماماً لعمق ما ارتكب من جرائم في حق الإنسانية ومعترف بها ومستعد للتكفير عنها وداعياً الضحية لتصفح عنه.

وتؤكد الغالبية العظمى من المفكرين أن جنوب إفريقيا قدمت نموذجاً، لا يزال فريداً، حين نفذت هذه الشروط الستة قبل وأثناء اجتماعات “لجنة الحقيقة والتصالح” التي شكلت لإعلان كل الحقائق المتصلة بعهد التفرقة العنصرية وسياساتها. وكان الشرط السادس، وسيبقى، الشرط الذي بفضله انحسر شعور السود بضرورة الانتقام من البيض والجماعات المتطرفة، وتحقق التصالح. ويخلص نيك سميث في كتابه “كنت مخطئا.. معاني الاعتذار” ومارجريت دوكر في كتابها “الإصلاح الأخلاقي”، إلى أنه لا أمل في أن يتحقق التصالح ما لم يعترف المذنب بجريمته ويعلن التوبة، وبعدها يأتي الاعتذار ثم الغفران. ومع ذلك لا يوجد في التجارب السابقة ما يشير إلى أن الاعتذار حتى وإن بدا في الظاهر حقيقيا وصادقا، يدفع بالضحية إلى أن يغفر للمجرم جريمته.

ولدينا في التجربة اليهودية مع ألمانيا النازية، بل ربما مع البشرية على امتداد التاريخ نموذج لحالة اعتذارات لا يقابلها اليهود بالغفران. بل إنه لقي الوجود “الإسرائيلي” في حد ذاته والممارسات التي ارتكبها خلال أكثر من قرن ضد شعب فلسطين والشعوب العربية دليلاً ملموساً على نية مبيتة لرفض منح العفو عن الشعوب المتهمة بالمسؤولية عما وقع لليهود من كوارث وكذلك عن نسلها. ويقول مفكرون “متفهمون” للحالة اليهودية إن هانا ارندت، الفيلسوفة اليهودية المعروفة، عندما صاغت عبارة “جرائم لا تقبل الغفران” كانت في ذهنها التجربة اليهودية، أي أن هناك جرائم ضد الإنسانية ستبقى لصيقة بمن ارتكبها ومتجددة في ذاكرة التاريخ مهما قدم المذنب من اعتذارات عنها أو دفع تعويضات أو اعترف بوحشيتها وبشاعتها.

ما لم تتنبأ به هانا آرندت، ويتجاهله كثيرون، هو أن الضحية حرصا منها على تفادي تكرار ما حدث لها أو استثمارا لكارثتها ترفض منح الغفران للمعتدي. هذا ما فعلته الكنيسة مع اليهود خلال معظم عصور المسيحية وفعلته اليهودية مع المجتمعات الأوروبية وبخاصة ألمانيا، لتبرر احتلالها لفلسطين. كما أنها أشعلت كراهية العالم الغربي للعرب والمسلمين، وفي الوقت نفسه كراهية العرب والمسلمين للغرب. وفي مثل هذه الحالات، كما في العلاقة بين الصين واليابان تستعذب الضحية التذكير بالمذابح والمعاناة والمحارق لتشعل الحماسة للوطن أو الأمة أو لجمع الصفوف لتحقيق أهداف أخرى. وتثبت مختلف التجارب أن أكفأ المعذبين وأقساهم قلوبا هم الذين تعرضوا ذات يوم لعمليات تعذيب وممارسات غير إنسانية منظمة وشديدة القسوة.

لن تعتذر “إسرائيل” عن مذبحة غزة، كما لم تعتذر من قبل عن مذبحتي جنين والخليل وغيرها من المذابح. فالاعتذار لكي يكون قابلاً للتصديق يجب أن يأتي مصحوبا برواية عن حقيقة ما حدث وكيف جرى التخطيط له والأساليب التي استخدمت لتنفيذه ومصحوبا أيضا.

بتعبير واضح يسجل اعتراف الطرف المذنب بالذنب والمسؤولية واستعداده تقديم التعويض المناسب. ولكن “إسرائيل” لن تعتذر لأن الاعتذار قد يتخذه الطرف الآخر حجة لإجراء مصالحة، والمصالحة تعني الاعتراف بالضحية وحقوقها ومستقبلها وترتب حقوقاً للعرب والفلسطينيين. والاعتذار قد يؤدي إلى فقدان اليهود “مكانتهم المتميزة” لدى شعوب أوروبا وفروعها في الأمريكتين وفي أستراليا ونيوزيلاندا.

ولن تعتذر “إسرائيل” لأن أطرافا عربية تلمح إلى استعدادها الغفران دون انتظار اعتذار من “إسرائيل” عن جرائم ارتكبت في حق الإنسانية، ولأن اليهود ونخبتهم الحاكمة في “إسرائيل” لم يغفروا يوماً لأحد أو جماعة أو دولة ارتكبت جرائم في حقهم، ولن يغفروا.
"الخليج"

التعليقات