31/10/2010 - 11:02

مع أوباما بحذر / جميل مطر

-

مع أوباما بحذر / جميل مطر
أوباما يتحرك وبسرعة على غير ما توحي انتقادات بعض المعلقين في الولايات المتحدة وخارجها. تحرك بكفاءة وبسرعة مناسبة للتعامل مع الأزمة المالية والاقتصادية رغم المعوقات الأيديولوجية والفنية التي وضعها الجمهوريون في طريقه، وتحرك بكفاءة وكذلك بسرعة في الساحة الدولية. ولا يعني إعجابي، ولا أقول انبهاري، بكفاءة إدارته لقضية الكساد وانفتاحه الدبلوماسي على قضايا الخارج أن ثقتي عالية بفرص نجاحه. لقد علمتنا تجاربنا مع الولايات المتحدة دروساً كثيرة ومفيدة أكثرها يتعلق بطبيعة النظام الأمريكي والنخب القائدة فيه. اخترت درسين منها لتأكيد ضرورة التزام الحذر وتبريد حرارة الانبهار السائدة في أنحاء العالم العربي:

* أولاً: إن مؤسسات معينة ذات صلة بالسياسات العليا في الولايات المتحدة ليست فقط عتيدة ولكن أيضاً عنيدة. وبالرغم من كل ما نعرفه عن مرونة السياسة ومؤسساتها ونخبتها القائدة تظل البراجماتية الأمريكية أسلوباً رقيقاً يخفي أيديولوجية صارمة وقوية وثوابت راسخة. أخص بالذكر المؤسسة العسكرية بمصالحها وقواعدها المنتشرة في قارات خمس ومحيطات ثلاثة وفضاء بلا حدود.

هذه المؤسسة تحديداً، ومؤسسات أخرى أهمها المؤسسة المصرفية وأسواق المال وقيادات الشركات العملاقة والكنائس والمؤسسة اليهودية، ستكون خصماً شديد المراس إن حاول أوباما أو جماعته المس بركائزها. أكاد أجزم بأن بعض هذه المؤسسات سوف يخفض رأسه في الشهور وربما السنوات الأولى من حكم أوباما تحت ضغط الأزمة المالية والاقتصادية وتقلباتها وغموض مصائر كثيرة في ظلها، وستخفض رأسها لأن أغلب هذه المؤسسات ستكون في حاجة إلى من ينقذها، ولا أحد أو شيء سينقذها سوى “الدولة”. هذه الدولة هي نفسها الدولة التي اختطفتها جماعة سيطرت على البيت الأبيض لمدة ثماني سنوات وأساءت إلى الشعب الأمريكي بتهورها وطيش قادتها وأدخلتها في حروب دمرت وخربت، وهي نفسها الدولة التي مزقتها تجاوزات آليات السوق واقتصادات الجشع وسلوكياته. ستكون هذه المؤسسات مستعدة في ظل دولة عادت فتية لتتخلص من قيادات ارتكبت أخطاء جسيمة ولتصحح جانباً أو آخر من جوانب الأزمة الراهنة، وبعضها أبدى الاستعداد، وإن مجبراً وليس مخيراً، للتعاون مؤقتاً بممارسة بعض التقشف أو بتعديل في أدوار ووظائف معينة، إلا أن التجارب تؤكد أن أغلب هذه المؤسسات لن يقبل أن تتدخل حكومة أوباما لإجراء تعديلات جذرية تمس بالضرر سبباً أو آخر من أسباب وجودها، لن تقبل المؤسسة العسكرية مثلاً أن يهدد أوباما وضع استمرار الهيمنة العسكرية الأمريكية في العالم أو أن يعرض للخطر احتكارات أمريكا في الخارج، خصوصاً في أمريكا الجنوبية وإفريقيا.

* ثانياً: إن في أمريكا، وعلى الدوام، تياراً محافظاً قوياً تحمي أجنحته قوى يمينية شديدة التطرف. تغلغلت هذه القوى في كثير من مؤسسات أمريكا وكانت دائماً جاهزة للانقضاض على خصومها الذين هم في رأيها خصوم أمريكا، لم تسكت يوماً منذ الاستقلال عما تصورته استفزازاً اجتماعياً أو دينياً أو سياسياً. رأينا كيف استفزها اليسار القادم إلى أمريكا من أوروبا متسللاً في موجات الهجرة في مطلع القرن العشرين ثم بعد الكساد العظيم في الثلاثينات. نتذكر حملة المكارثية بعد الحرب العالمية الثانية وما فعلته مع قمم الثقافة والفن والسياسة من تشريد وقمع وتشويه سمعة، ونتذكر التنظيمات اليمينية المتطرفة التي تقدمت صفوف المواجهة ضد ثورة الشباب والمعارضة ضد الحرب الفيتنامية في أواخر عقد الستينات وأوائل السبعينات. ونتذكر أيضاً كيف نشبت ثم تصاعدت الحملة النازية برداء ديني متعصب مستهدفة النخب المثقفة والليبرالية لإجبارها على عزل أمريكا عن العالم وطرد الأمم المتحدة، نتذكر حين شن هذا التيار اليميني المتطرف حملته، الهزلية حيناً ولكن المخيفة حيناً آخر، التي حذر فيها من هجوم واسع على المدن الأمريكية الكبرى “تقوده طوافات سوداء اللون” ينتهي باحتلال الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت هذه الحملة وراء اندفاع أحد المتطرفين إلى ارتكاب جريمة تفجير مبنى الحكومة الفيدرالية في ولاية أوكلاهوما، كما دفعت المئات من أتباع فرق دينية إلى تنظيم “انتحارات” جماعية ودخل بعضها في حروب مكشوفة مع الشرطة الفيدرالية استخدمت في إحداها الطائرات.

وفي عهد بوش الثاني لمعت ظاهرة المحافظين الجدد. هؤلاء خرجوا من عباءة مدرسة شيكاغو وإدارة الرئيس الأسبق ريجان وحرب الخليج الأولى، خرجوا أشد إصراراً على تغيير العالم ليكون على الصورة التي رسموها له، فكانت الحرب ضد الإسلام والمسلمين وضد أفغانستان والعراق، وكانت السياسة الخارجية المشحونة بدرجة عالية للغاية من الهوس والتوتر والعنصرية الصهيونية، ودرجة أعلى من التخبط وضيق الأفق والالتزام الايديولوجي.

كان ظن البعض أنه بتهاوي العرش الإمبراطوري الذي جلس عليه الرئيس بوش ثماني سنوات تتهاوى ركائز المحافظين الجدد وتيارات أخرى في الجانب الأشد تطرفاً من اليمين الأمريكي. وكان ظني يميل إلى أن المحافظين الجدد برسوخ أصولهم التاريخية والعقائدية في النظام السياسي الأمريكي لن يختفوا تماماً من الساحة أو يعترفوا بالهزيمة، وإنما سيتوارون بعض الوقت إلى أن تحين فرصة أخرى للعودة، أو أنهم سيختفون لفترة وراء أقنعة الندم أو الاعتزال أو الإنكار. ولدينا ثلاثة من قادة التيار يمثلون بمواقفهم الراهنة هذه البدائل المتعددة لمستقبل هذا التيار. كان فوكوياما أول من تنبأ بسقوط عرش اليمين الإمبراطوري الأمريكي وخرج تائباً ومعتذراً. وكان روبرت كابلان نموذج الالتزام لحركة سياسية أصيلة، فقد رفض التوبة والاعتذار وأصدر وثيقته الشهيرة التي وضع فيها المواصفات التي يجب أن تتوفر في الرئيس الأمريكي الذي سوف يخلف بوش إن شاءت أمريكا الاستمرار قائداً للعالم. ووضع في صدارة مواصفاته شرط أن يكون “محارباً على النمط الطروادي”، أي قاسياً إلى حدود قصوى، فالعالم في السنوات القادمة سوف يشهد ولادة طبقات محاربين من نوع أشد عنفاً لقيادة “مافيات” من نوع جديد، وجيوش تحرس تجارة المخدرات وحركات تطرف ديني وحركات تمرد ومقاومة وطنية في أنحاء شتى من العالم. أما النموذج الثالث، وهو الأخطر، فقد جسده رتشارد بيرل المعروف بأمير الظلام أشد من كره العرب والمسلمين، وأعني الصهاينة العنصريين المعادين لكافة المذاهب والأديان الأخرى. خرج الرجل فألقى محاضرة في مركز نيسكون نقل فقرات منها الكاتب في صحيفة “واشنطن بوست” دانا ميليبانك. جاء فيها 1 إنكاره الحازم أنه كان واحداً من المحافظين الجدد. 2 لم يوجد شيء اسمه محافظون جدد. 3 إن صح وجود محافظين جدد فهؤلاء غير مسؤولين عن كوارث الأعوام الثمانية الماضية. كانت محاضرة بيرل أقرب إلى الهزل، ولولا معرفتنا الوثيقة بالرجل وماضيه لاعتقدنا أنه ممثل كوميدي، يقول الكاتب ميليبانك إن بيرل عندما ووجه بوثيقة تحمل اسمه قال إنه وقعها لأغراض أخرى لا يذكرها، وعندما سألوه عن رسالته إلى بوش يدعوه إلى شن حرب ضد العراق على الفور، قال إن الرسالة ليست أمامه “الآن”، وإنه غير متأكد من أن الرئيس قرأها.

أما أنا فأميل إلى الاعتقاد بأن المحافظين الجدد كانوا حقيقة واقعة وليسوا مجرد ظاهرة عابرة، ومازالوا موجودين أدواراً وتياراً، وأنهم، مع غيرهم من المؤسسات والتيارات العتيدة في انتظار “سقطة” لأوباما أو قرار يمس “إنجازاتهم” الاقتصادية والاجتماعية، أو يضر “إسرائيل” ليشعلوها حملة ضد التغيير الذي يسعى أوباما لتحقيقه.

لا أشكك في فرص نجاح أوباما، ولكن أحذر من وجود قوى وتيارات ومؤسسات لن تسمح له بتجاوز حدود معينة. وأتصور في الوقت نفسه أن وجود أوباما في حد ذاته سوف يفجر توقعات يصعب أن تخبو في هدوء.



"الخليج"

التعليقات