31/10/2010 - 11:02

مقال تردّدت في كتابته/ كلوفيس مقصود

مقال تردّدت في كتابته/ كلوفيس مقصود
تردّدت كثيراً قبل كتابة هذا المقال لأني سأتناول قضية يكاد فيها التمييز بين الاديان يتحول اضطهاداً وما ينطوي على تهجير قسري وقتل متعمد، واحيانا دون ردع للتمادي في سياسات الاذلال التي تنطوي عليها ممارسات التمييز.

اشرت الى ترددي في طرح هذه القضية المتجددة في استفحالها، وبالتالي خطورتها على النسيج الاجتماعي والمناعة الوطنية في مختلف ارجاء الوطن العربي، لكوني كنت اتعامل مع بعض ممارسات التمييز على انها شطط موقت، وترسبات تمكن معالجتها، ونتوءات تمكن ازالتها، وإن بصعوبة. والتردد الذي يلازمني الآن سببه انني كنت – والى حد ما لا ازال – ادرك ان الممارسات تحديات عابرة ولا يمكن ان تتحول انماطا سائدة، وهذا الاقتناع لا يزال راسخاً لدي، وإن كنت اشعر بقلق متزايد من فرص استفحالها.

ان الاقتناع الراسخ في وجداني ووجدان معظم فئات الشعب العربي، هو ان الارهاب الفكري والسياسي يحاول اسكات الخطاب القومي المتجدد والمنفتح، وقمع استعادة جدواه. ولعل ما حصل اخيرا من تهجير قسري لمسيحيي العراق وتدمير بعض بيوت العبادة وتعمّد القتل ومحاولة تفريغ العراق يدفعنا جميعا ان نعي ان هذه الممارسات تتنافى مع الحضارة العربية الاسلامية وتعرقل ارساء قواعد التنمية المستدامة، بما يجعل هذه الظاهرة حالة مرضية عصية على المعالجة.

ان ممارسات التمييز الديني والطائفي والعرقي تجعل الآخر مرشحاً ليكون كبش فداء، وكما يقال احيانا "حلال ذبحه"، وهذا ما يدمّر النسيج الاجتماعي ممهداً لشرعنة التهميش وحرمان الحقوق، وبالتالي الرضوخ لاحتمالات القمع. كل هذا يعطّل صيغة التنوع ضمن الوحدة من خلال الغاء مكوناته عبر وسائل التطهير والتهجير، ناهيك بالتقتيل، كما حصل عندما هدد نائب وزير الدفاع الاسرائيلي اهل غزة، حيث اصبح الحصار الخانق نموذجا لما قد يكون آتياً، اذ ان سياسة "اسرائيل دولة لليهود" تنطوي بدورها على احتمال مزيد من التهجير والتطهير.
نعم، لم يخطر لي التطرق الى هذه المعضلة المتنامية في خطورتها إلا بعد ما حصل في العراق بين سنة وشيعة ومسلم ومسيحي والهبوط المتواصل في الحضور المسيحي من 18 في المئة الى 5 في المئة، اضافة الى ما نشهده في مصر من نزاعات بين المسلمين والاقباط، وكل هذه النتوءات تشكل تهديداً واضحا لعراقة الثقافة الاسلامية ولقيم الهوية العربية، واهم من كل ذلك لمستقبل الاجيال العربية القادمة.
* * *
لعلها المرة الاولى اتطرق الى مشكلة توصف بأنها "حالة المسيحيين" لكون اقتناعي القومي بعروبة هويتي جعلني اعتبر ان الحضور المسيحي في الوطن العربي عميق الجذور وراسخ في الوجدان، وبالتالي هو حاجة اسلامية. كما ان الاسلام بدوره، المفعم بالحيوية، يقوي الهوية ويمكّنها من المساهمة والانجاز. وما يدعم هذا الاقتناع لا يكمن في صيغة التنوع داخل الوحدة، بل في كون الهوية العربية بأصالتها ومراحل تطورها ورسوخها في الوعي ادت الى شكل من اشكال التداخل التلقائي، بحيث وجدنا امثال قسطنطين زريق وفارس الخوري وميشال عفلق وجورج حبش وعزمي بشارة ومكرم عبيد والبابا شنودة الذي حرم الاقباط الذهاب الى القدس منذ احتلالها وخصوصا بعد اتفاق كمب ديفيد، والبطريرك ميشال صباح والمطران عبدالله خوري والآلاف من هؤلاء المسيحيين الذين مهما اختلفنا مع سياساتهم او دعواتهم العقائدية الا ان مسيحيتهم لم تحل دون ان يكون معظم انصارهم واعضاء احزابهم من المسلمين مما يعزز اقتناعنا بأن ما هو حاصل الآن ليس سوى شطط دبيب عابر، مهما طالت مدته، وبالتالي علينا التصدي لهذا العيب الذي يعتّم على طاقة العروبة التنويرية ويعطّل مسيرة التقدم والنهضة من جهة، ويؤدي من جهة اخرى الى عودة الجاهلية لتسقط العقل عن موقعه.

هذا تحدّ مصيري لا يواجه الا بوحدة المصير العربي، وبان العروبة هوية حاضنة للتنوع، فهي تأبى حصرها في دين او عرق معيّن، كما تأبى الانحياز الى ما يسمى "الاقلية". فعروبة الهوية مرادفة للمواطنة في اي وطن عربي، وبالتالي هي دافع لانتاج تنوّع يعزّز الوحدة داخل كل وطن، ويعزّز مناعة الامة.

من هذا المنطلق نرى "الاهتمام" العالمي بالانتخابات الرئاسية الاميركية، لكون نجاح باراك اوباما يعزز فرص ازالة عيوب التمييز، لما قد يشكله انتخابه من مدخل لسلامة التعددية النامية في كثير من المجتمعات العالمية، ويدفع التنوع فيها الى مزيد من التلاحم والابداع، في حين ان الحملة ضد اوباما قد تؤول الى فتح غرائز التمييز ابواباً يفترض ان تغلق، والعودة الى التسطيح في معالجة قضايا المصير العالمي. ان انتخاب اوباما يكون نبذاً واضحاً للعنصرية وسياسات التخويف، والاستحقاق الرئاسي في الولايات المتحدة صار الى حد ما معولما.
ان ما تحاول اسرائيل ان تقوم به في هذا الصدد هو المزيد من التمدد والتوسع وتكريس المشروع الصهيوني لقيام دولة لليهود، في حين تعمل على صهينة العرب، بحيث لا نعود عربا، بل يسود الخوف بعضنا من بعض، وتعم سياسات التمييز والاضطهاد، وبالتالي الاقتتال في اوطاننا حتى تكون اسرائيل وحدها، مع ترسانتها النووية، متحكمة في مصائرنا المتضاربة - وان امكن المتقاتلة داخل مجتمعاتنا. هذا الوصف ليس مبالغة، وارجو ألا يكون تحذيراً متأخراً. نحن في حاجة الى قفزة نوعية تعيد الى العروبة مناعتها لجبه كل انواع الارهاب الفكري والسياسي والعملاني، والذي هو بوعي او بدون وعي محاولة لما تريده صهيونية اسرائيل لواقعنا، اي تمزيق وحدتنا والغاء طموحاتنا وافقادنا آمالنا وتطويق حضورنا.

ارجو ألا نسمح لانفسنا بالتخلي عن حقنا في الامل، وارجو ان تبقى الافكار المشوّشة غريبة عن ضميرنا، ويجب ان تبقى غريبة عن مصيرنا وعن تراثنا ايضا.



"النهار"

التعليقات