31/10/2010 - 11:02

من الشرق إلى الغرب والآن بالعكس../ جميل مطر*

من الشرق إلى الغرب والآن بالعكس../ جميل مطر*

نردد دائماً عبارة التاريخ لا يعيد نفسه، ومع ذلك نفكر غالباً ونحلل كما لو كان التاريخ يتكرر أمامنا. نستعير منه قصصاً لنؤكد أن لا جديد يحدث في هذه الدنيا ونروي لأبنائنا وأحفادنا روايات سبق أن رواها لنا آباؤنا وأجدادنا ولسان حالنا يقول إن التاريخ يعيش في حاضرنا وإن اختلفت المشاهد واختلف اللاعبون.

هذا بالضبط ما حاول أن يوحي لنا به المؤرخ الأمريكي البريطاني الأصل، نيال فيرجسون، عندما تنبأ بأن يوماً سيأتي يقوم فيه المؤرخون بعقد مقارنة بين هذه المرحلة من حياة الولايات المتحدة ومرحلة عقد السبعينات من القرن التاسع عشر في حياة الإمبراطورية العثمانية، وكذلك في حياة أهم ولاية فيها في ذلك الحين وهي مصر، يذكّر فيرجسون بمرحلة أزمة الديون التي أطبقت على عهد السلطان عبد المجيد بسبب الإنفاق الضخم على حرب القرم وتداعيات هذه الحرب على الاقتصاد العثماني، ويذكر بخديوي مصر الذي استدان لينفق على تحديث مصر وشجعه دزرائيلي، رئيس وزراء بريطانيا، على مد خطوط للسكك الحديدية وشق قنوات لخدمة الزراعة المصرية، وكيف أن الخديو تجاوز في الإنفاق إلى حد السفه، كما فعل سلطانه في الأستانة، فالأول شيد دار الأوبرا المصرية لإقامة حفل خاص لأوبرا فيردي التي كتبت خصيصاً لمناسبة افتتاح قناة السويس. أما الثاني فقد شيد بكثير من أموال القروض قصره الشهير “ضلمة باشا”.

تراكمت ديون السلطنة في الفترة ما بين 1855 و1875 حتى تضاعفت 28 مرة وزادت تكاليف خدمة الديون الأوروبية من 15% حتى وصلت إلى 50% في ،1875 وفي مصر زاد الدين الخارجي من 3.3 مليون جنيه مصري إلى 76 مليون وفي عام 1976 كان نصف بند المصروفات في موازنة الدولة يذهب إلى خدمة الديون. عندئذ تدخلت دول أوروبا بحجة ضمان قرضها حتى أعلنت الإمبراطورية العثمانية الإفلاس في عام 1873 وفرضت الوصاية على مصادر الدخل في مصر والدولة العثمانية وتشكلت لجنة دولية للإشراف على الشؤون المالية وبيعت الديون فاشترت بريطانيا نصيب مصر في قناة السويس. وفي النهاية اعتزل السلطان الحكم وتدخلت روسيا لانتزاع البلقان أو تحريره من “الحكم الإسلامي” واحتلت بريطانيا العظمى مصر، وهو الاحتلال الذي استمر أكثر من ثمانين عاماً.

أين وجه المقارنة بين هذه الظروف التي غيرت، وبشكل جذري، جيواستراتيجية الشرق الأوسط، والظروف التي تمر بها الولايات المتحدة الأمريكية. أظن أن “نيال” قفز بسرعة مبالغ فيها إلى خاتمة كان يسعى دائماً لتأكيدها، وهي أن ميزان القوى الدولية يتغير الآن، وبشكل جذري أيضاً، لمصلحة الشرق ولغير صالح الغرب، بالعكس تماماً مع ما حدث في نهايات القرن التاسع عشر حين انتقلت “القوة” من الشرق ممثلاً في الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الصينية وإمبراطورية المغول في الهند إلى الغرب ممثلاً في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبيوت المال الأوروبية.

يعتقد فيرجسون أن أزمة الديون الأمريكية تتفاقم بتدرج وأنها ربما وصلت إلى مرحلة حرجة أو خطيرة، الفرق الوحيد بين هذه الأزمة وأزمة الديون “الشرقية” في القرن التاسع عشر هو المتعلق بمؤسسات الاستدانة، فالجهات المستدينة في أمريكا أغلبها شركات ومصارف ومصالح خاصة، بمعنى آخر يتحمل مسؤولية الديون الراهنة القطاع الخاص الأمريكي، بينما كانت الحكومة أو شخص السلطان المستدين الرئيسي في الإمبراطوريات الشرقية ومصر. ولهذا السبب انتقلت القوة من مراكزها في الشرق إلى مراكز جديدة في الغرب.

إلا أن هذا الفرق لا يعني أن الحكومة الأمريكية ليست طرفاً في ما يحدث في أزمة الديون، وفي ما سوف يحدث من تطورات في المستقبل، إذ إنه حين تدخل الصناديق السيادية العربية والروسية والصينية، وحين تدخل أموال “من الشرق” لتشتري ديون القطاع الخاص الأمريكي، كما حدث وبكثافة خلال الأشهر الأخيرة، فإن الحكومة الأمريكية تكون قد فقدت عوائد مالية كثيرة ستذهب إلى الجهات “القادمة” من الشرق والمشترية للأصول الأمريكية، وقد تبدو هذه الخسارة، لعديد من الخبراء الاقتصاديين، أمراً يمكن احتماله في ظل دولة اقتصادها مازال في عمومه قوياً، إلا أن خبراء آخرين يعتقدون أن الخسارة لن تقتصر على نقص العوائد للحكومة الأمريكية وإنما ستمتد لتصل إلى مصالح أمريكا الإستراتيجية في العالم بأسره، يبدو مؤكداً لهؤلاء أن الخسارة المعنوية الناتجة عن شعور أمريكا بأنها صارت تعتمد على الشرق لتحافظ على اقتصادها عنصر كاف للإخلال بحالة توازن القوى الدولية.

وبمعنى آخر، قد يتضح حسب رأي المؤرخ فيرجسون، أن الخلل الاستراتيجي في توازن القوى يتحول قريباً ليصبح فجوة حقيقية، لأن أمريكا قد تضطر في يوم قريب إلى مقايضة بعض قواعدها العسكرية في الخارج بأقساط الفوائد المستحقة على دينها العام المتفاقم، وقد تلجأ قريباً إلى تخفيض إنفاق المؤسسة العسكرية بشكل عام، بما يعني الاعتراف بأن بعض أعراض الضعف الإستراتيجي حقيقي وليس أمراً متخيلاً، أنا شخصياً أستبعد وقوع هذا الاحتمال في الأجل القصير، أي في عهد الإدارة الأمريكية القادمة، لأنني أتصور أن المؤسسة العسكرية الأمريكية بدأت في الآونة الأخيرة تمارس عملية واسعة للنقد الذاتي، وهي عملية لا تنتهي في عام أو عامين وبخاصة إذا كانت المؤسسة التي تقوم بها على هذه الدرجة من الضخامة والانتشار، أو على هذه الدرجة من النفوذ في الحياة السياسية. فإن كان صحيحاً أن المؤسسة بدأت تناقش في السر، وأحياناً في العلن، أسباب فشلها في إدارة صراعات وحروب عديدة، فإنها لن تخرج بنتائج نقاشاتها إلى العالم الخارجي قبل أن تكون قد اطمأنت إلى أن الخلل في التوازن الناتج عن أزمة الدين العام الأمريكي، لن يؤثر مباشرة في خططها إعادة تنظيم صفوفها وقواعدها في الداخل وفي الخارج.

هنا ربما يصح الرد على فيرجسون بالقول إن التاريخ يقدم عبراً ودروساً أكثر من محاولاته تكرار نفسه، وبالتالي فإن سقوط الإمبراطورية العثمانية نتيجة عجزها عن سداد ديونها الخارجية ووقوع مصر تحت الاحتلال البريطاني وانتقال مراكز الثقل والقوة من الشرق إلى الغرب، لا تعني جميعها بالضرورة أن تطورات مماثلة سوف تقع لأمريكا والغرب ودول الشرق الصاعدة ولتوازن القوة الدولية خلال فترة مماثلة، أي خلال عشرين عاماً.

لقد اختلفت آليات صعود الدول وهبوطها، وتعقدت العلاقات الاقتصادية الدولية، وتعمقت كافة أبعاد الاعتماد المتبادل بين الدول والشعوب، وتغيرت مفاهيم الثقافات ودخلت مفاهيم جديدة إلى ساحات العقائد الحديثة وأساليب الدعوة وسبل انتشارها. وقعت، ومازالت تقع تغييرات كثيرة، إلى درجة تجعل عملية انتقال مواقع القوة أو عودتها من الغرب إلى الشرق مسألة أشد تعقيداً من الصورة التي قدمها المؤرخ الشهير نيال فيرجسون، المؤكد أن تراكم الديون من يكون عنصراً كافياً لتفسير عملية انتقال القوة، ولم يعد مبرراً كافياً للتدخل. لذلك، ورغم الإفلاس الفعلي لدول متعددة، لم يعد المجتمع الدولي حريصاً على إعلان إفلاس دولة أو أخرى قدر حرصه على إنقاذ ما يستطيع إنقاذه قبل تفاقم الأزمة دولياً. وهو ما فعله في حالات المكسيك وإندونيسيا ودول أخرى.

انتقال القوة واقع لا شك فيه، وقد آن أوانه، ولكنه لن يقع بالسهولة التي يتوقعها المؤرخ والكاتب الكبير.
"الخليج"

التعليقات