31/10/2010 - 11:02

منطق السياسة../ د.عبدالإله بلقزيز

منطق السياسة../ د.عبدالإله بلقزيز
ليس من سياسة لا تكون محكومة بثنائيات تتمظهر حيناً وتختفي أحياناً دون أن تحيد عن تلك السياسة. هذه ظاهرة قابلة للرصد والمعاينة في سلوك الأفراد والمؤسسات السياسي، وهي أظهر وأجلى في حالة الدول. والغالب على تلك الثنائيات أن تبدو في صورة خيارات سياسية متنوعة وأحياناً متضاربة. وقد يبدو التضارب بينها، في حالات منه، قوياً إلى حد الاعتقاد بأن التناقض الذاتي والمفارقة (هي) سمة تلك السياسة. وما يبلغ الأمر حد هذا الاعتقاد إلا لأن الفرضية الأساس التي يقوم عليها وعي السياسة هي (الفرضية) التي تحسب السياسة وحدة عضوية مغلقة مبنية على تجانس مطلق. ومن غير الخفي أن هذا التجانس الماهوي إن هو إلا تجانس افتراضي لا يلحظ ناضره الديناميات العميقة التي تؤسس كل سياسة وتنطوي غالباً على جدليات تبدو لوعي سطحي متنابذة أو لا تقبل الجمع والتركيب. ولو أمكن وعيها (أي السياسة) بعيداً عن فرضية التجانس الذاتي والوحدة العضوية المطلقين، أي كفضاء لفعل جملة من الديناميات المختلفة (والمتباينة أحياناً)، لأمكن بالتالي زوال الأسباب الحاملة على استغراب قيامها على ثنائيات، وعلى حسبان الثنائيات إياها أمارة على تنزل التناقض والمفارقة فيها منزلة التكوين والماهية.

ولقد يكون من تحصيل الحاصل القول إن السياسة ليست عنصراً بسيطاً وجوهرانياً، بالمعنى الفلسفي، بحيث تقبل التعيين المطلق المسكون بمعرفة الجواهر والماهيات. وإنما هي ظاهرة مركبة من مزيج من العناصر والأسس والأبعاد، ومتغيرة تسري عليها أحكام التطور ومقتضيات المكان والزمان. والأهم من تعيينها النظري هذا أنها غير قابلة للإدراك إلا في علاقتها الممتدة بالواقع ومعطياته: تغتذي منه وتتحدد به وتتلون مثلما تؤثر فيه قليلاً أو كثيراً من التأثير. وإذا شئنا الدقة في التعيين أكثر قلنا إن السياسة إنما هي تلك الفاعلية الإنسانية التي يؤسسها مبدأ المصلحة، وإنها تبع لذلك المبدأ لا تحيد عنه. ولما كانت المصالح متغيرة ومتبدلة من حال إلى أخرى، استتبع ذلك أن تكون السياسة على النحو نفسه متغيرة متبدلة. ولما كانت المصلحة قد تقتضي ركوب أكثر من مركب وتوسل أكثر من وسيلة، كان مما تقتضيه السياسة بالتبعة أن تجرب إعمال ما بين يديها وما في حوزتها من موارد. وهكذا، إذ تبدو ثنائياتها (المتعارضة أحياناً) مجافية ل “طبائع الأمور”، لدى وعي شغوف بالطبائع والماهيات والمطلقات، تبدو في مرآة السياسة نفسها جزءاً تكوينياً أصيلاً منها.

رب مصلحة تدفع دولة ما إلى رسم سياستها حيال مسألة ما من المسائل المصيرية أو الاستراتيجية على نحو تتكافأ فيه مثلاً حظوظ أو فرص الحرب والسلام (في التعامل مع المسألة ذاتها أو في إدارتها سياسياً) فتجد نفسها أمام ثنائية حادة لا مهرب منها: خيار الحرب وخيار السلام معاً وفي نفس الآن. وهذه حال قسم عظيم من دول عالم اليوم في سياساتها المتعلقة بالأمن القومي خاصة. ورب دولة تبرر لها المصلحة أن تنطوي سياساتها العليا على مزيج من الانفتاح والانغلاق في آن: انفتاح اقتصادي مثلاً وانغلاق سياسي. وتلك حال الصين في هذه الحقبة من تاريخها وربما وجدت دولة نفسها موزعة بقوة أحكام المصالح بين سياسات تدفع نحو انتماء غربي أكثر وبين أخرى تدفع نحو التمسك بانتمائها الحضاري إلى الشرق. وتلك حال تركيا منذ مطلع هذا القرن حيث التجاذب والتجاور أيضاً بين التطلع إلى العضوية في “الاتحاد الأوروبي” وبين التمسك بثوابت تركيا الحضارية والإسلامية. في جميع هذه الحالات، وفي عشرات من مثلها في العالم، ثمة جدلية بين منازع واتجاهات تصنعها مصالح موضوعية، ولا مجال للنظر إليها كثنائيات متعارضة أو عصية الفهم.

لا يجوز النظر، إذن، إلى الثنائيات الحاكمة لسياسة ما (من هذا النوع الذي وصفناه) بحسبانها ازدواجيات أو مرادفة لمعنى الازدواج. فالازدواجية ثنائية غير سوية أو تقوم على تناقضات ماهوية. إنها تنتهك مبدأ الانسجام الذاتي في أية ظاهرة أو قضية بعكس الثنائية بالمعنى الوارد قبلاً التي تحفظ لذلك الانسجام شخصيته وقد لا تكون هي نفسها سوى صورة من صوره. في السلوك الفردي: يمكن للمرء أن يكون في الوقت عينه متسامحاً وحازماً، صريحاً ومجاملاً، دون أن يعني ذلك تناقضاً في شخصيته أو في تكوينه النفسي. لكن المرء لا يمكنه أن يكون ورعاً وفاجراً، صادقاً وكاذباً، متواضعاً ومتعجرفاً، في الآن نفسه إلى متى كان مصاباً بمرض الازدواجية في الشخصية. وشأن الدول والجماعات السياسية في هذا الباب كشأن الأفراد سواء بسواء.

على أن الثنائيات السياسية في سلوك دولة ما قد لا تكون دائماً طبيعية وخصبة بالمعنى الذي عرضناه. فقد تطرأ عليها طوارئ وأوضاع تحولها إلى ازدواجيات تنطوي على تنقاضات صارخة وتشي بغير قليل من السلوك المرضي فيها. قد يكون من الطبيعي تماماً أن تقوم سياسة الاستقلال الوطني مثلاً لدى أية دولة في العالم على المزيد من الانفتاح على العالم لا على الانغلاق، وتلك ثنائية خصبة تجعل من الانفتاح مورداً لتغذية مطلب الاستقلال وصونه. لكن من غير الطبيعي أن تسعى دولة إلى الاستقلال الوطني من خلال الإمعان في خيارات التبعية والارتهان للأجنبي لأن في ذلك تناقضاً صارخاً يأباه العقل والواقع. وهو عينه التناقض الذي قد تقوم عليه سياسة تنشد التحديث الاقتصادي والاجتماعي وتغذي التقليد الثقافي في الوقت عينه، أو تسعى في بناء نظام ديمقراطي حديث محافظة في الآن نفسه على النظام العصبوي (الطائفي أو المذهبي أو العشائري)، أو تتطلع إلى استعادة أراض لها وحقوق مغتصبة من عدو تنشد صلحه وصفحه (حتى قبل استعادتها تلك الحقوق). في هذه الحالات، نحن أمام ازدواجية مرضية في السلوك السياسي لا ينفع معها سوى.. التحليل النفسي.
"الخليج"

التعليقات