31/10/2010 - 11:02

نحو تأسيس "رؤية سياسية فلسطينية جديدة"../ماجد كيالي

نحو تأسيس
استندت الوطنية الفلسطينية، منذ أكثر من أربعة عقود من الزمن، على عدة أفكار مؤسّسة، أهمها:1) اعتبار الكفاح المسلح الطريق الوحيد أو الأساسي لمواجهة إسرائيل وتحرير فلسطين. 2) السعي لتحقيق الدولة المستقلة (في الضفة والقطاع)، وهو ما بات يعرف بخيار الدولتين، وبرنامج الإجماع الوطني، وهدف "الحرية والاستقلال". 3) استقلالية الساحة الفلسطينية، ما تمثل في اعتبار منظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب، ورمزا وقائدا وكيانا معنويا له. 4) اعتبار أن قضية فلسطين، ومصارعة إسرائيل، مركزا لنضال الأمة العربية.

وقد استطاعت حركة التحرر الفلسطينية، بفصائلها المقاومة (وأهمها فتح)، تحقيق عديد من الإنجازات، وأهمها انتشال الشعب الفلسطيني، لاسيما في مناطق اللجوء والشتات، من حال التشرد والتشتت والضياع، وتأكيد حضوره في مواجهة محاولات التغييب والإلغاء الإسرائيلية. وبمعنى آخر فقد استطاعت هذه الحركة استنهاض وطنية وهوية وكيانية الفلسطينيين، وفرض قضيتهم على الأجندة الدولية، وتثبيت واقع إسرائيل أمام العالم بوصفها دولة استعمارية عنصرية.

مع مرور الزمن، ومنذ خروج منظمة التحرير من لبنان (1982)، ثم عقد اتفاق أوسلو (1993)، مرورا بانهيار مساري الانتفاضة والمفاوضة في المواجهات الفلسطينية ـ الإسرائيلية الحامية (2000 ـ 2008)، وصولا لتداعيات الانقسام والاختلاف والاقتتال، وضمور الفصائل بحسب ما بيّنت نتائج الانتخابات التشريعية (2006)، في مقابل صعود حركة حماس، وهيمنتها على قطاع غزة، باتت الساحة الفلسطينية بحاجة ماسة إلى تجديد رؤاها وبناها وأشكال عملها.

بمعنى آخر، لقد تغير الواقع، بمعطياته الذاتية أو الموضوعية، الذي بنيت عليه الأفكار المؤسسة السابقة. وثمة حال استعصاء في الساحة الفلسطينية سواء بما يتعلق بعملية التسوية ومسار المفاوضات، أو بما يتعلق بعملية المقاومة ومسار الصراع. وثمة انقسام في الحركة الفلسطينية بين حماس وفتح، ثم بين التيار الديني والتيار الوطني. فوق ذلك فإن بني العمل الفلسطيني (على مستوى المنظمة والسلطة والفصائل والمنظمات الشعبية) تكاد تكون تكلست واستهلكت، كونها افتقدت طويلا للتجديد وللحراك الداخلي، ومواكبة المتغيرات. ومكانة القضية الفلسطينية على الصعيدين الدولي والعربي تراجعت. ولم يعد هدف الدولة الفلسطينية بمثابة الهدف الموحد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، إن بسبب الإحباط من الأمر الواقع الاحتلالي الذي تفرضه إسرائيل، أو بسبب الشبهات الوطنية والمسلكية التي تحوم حول السلطة، والانقسام بين غزة والضفة. كما لم يعد ثمة مرجعية كيانية موحدة للفلسطينيين، بعد تآكل مكانة المنظمة لصالح سلطة ضعيفة المكانة والصدقية. هكذا فإن مشكلة الفلسطينيين أن حركتهم الوطنية لم تستطع تحقيق المهام الوطنية، التحررية والبنائية التي أخذتها على عاتقها، بل إنها باتت غير قادرة حتى على صون منجزاتها المتحققة، فما بالك بتطويرها؟!

ويكفي أن إسرائيل صدرت أزمة عملية التسوية إلى الفلسطينيين، وأن مكسب دحر الاحتلال من قطاع غزة تحول إلى عبء، ومآثرة الانتخابات تحولت إلى مصيبة، وأن مفهوم الشعب الفلسطيني بات عرضة للتفكك بسبب غياب رؤية موحدة. وأن منظمة التحرير باتت من التاريخ، والسلطة مرتهنة للمعونات الخارجية، ومقيدة بما تريده إسرائيل. وأن صورة النضال الفلسطيني تشوهت بحكم الفوضى والفساد، وتشوشت بحكم التراجع من موقع حركة التحرر الوطني، وإشاعة انطباع بقيام دولة مستقلة، قبل إنهاء الاحتلال والاستعمار الاستيطاني، كما بإشاعة نوع من الندية بين الفلسطينيين الذين يريدون تدمير إسرائيل بالصورايخ والعمليات الاستشهادية، وكأنهم باتوا كيانا مستقلا، بل وندا للقوة الإسرائيلية. وهذا وذاك تتحمل مسؤوليته أكبر حركتين (فتح وحماس).

على ذلك فإن الحركة الوطنية الفلسطينية، بكل مكوناتها، باتت معنية بمراجعة أفكارها التأسيسية، لتجديدها وتطويرها وإغنائها. ويمكن أن يرتكز ذلك إلى:

أولا، التحول من هدف الدولة المستقلة (حل الدولتين) إلى حل الدولة الواحدة، التي تتفرع لدولة ثنائية القومية أو لدولة مواطنين (وبمعنى أخر دولة ديمقراطية علمانية على كامل فلسطين). والقصد ليس القطع مع هدف الدولة المستقلة، الذي بات له من العمر 34 عاما(!)، وإنما التعامل بجدية مع تهرّب إسرائيل من هذا الخيار، وقيامها بنقضه على الأرض، بوقائع (الاستيطان وتهويد القدس والجدار الفاصل والترتيبات الأمنية). وحتى بمعزل عن ما تفعله إسرائيل لتقويض هذا الخيار، فإن الدولة في الضفة والقطاع، على أهميتها العملية الوطنية، لا تحل مختلف جوانب القضية، ولا تسهم بخلق آليات لوحدة الشعب (فلسطيني 48 و67 واللجوء والشتات). فوق ذلك فإن المطلوب من هذا التحول توسيع أفق خيار الدولة المستقلة؛ بالنظر إليه بمنظور التطور الموضوعي، وبعين مستقبلية. وبفرض تمكن الشعب من تحقيق الاستقلال في دولة (بالضفة والقطاع)، فما الذي يمنع من فتح أفق لمستقبل مشترك لمواطني هذه المنطقة؟ وما الذي يمنع مسارات تكامل بين كياناتها السياسية (تكامل بني تحتية ـاقتصاد) وصولا لنوع من الاندماج الكياني (في فدرالية أو كونفدرالية)؟ وهذا لا يقتصر على أرض فلسطين، هذه التطورات، مدفوعة بمسارات العولمة، وبالحاجة إلى التكامل في تكتلات كبرى، تفضي إلى نوع من الاندماجات الكيانية بين إسرائيل وفلسطين والأردن، وربما على نطاق بلاد الشام؛ فلا أحد يستطيع التكهن بمآلات الكيانات السياسية وتحولاتها. لذا من المهم طرح فكرة، أو رؤية، سياسية ـ ثقافية للتمكن من وعي هذه التحولات وإدارتها في هذا المسار. وفي كل الأحوال فإن خيار الدولة الواحدة (ثنائية القومية ودولة المواطنين) تفتح افق وحدة الأرض والشعب بالنسبة للفلسطينيين، وتمكن من تذويب مختلف عوامل الصراع لدى الطرفين (الحدود واللاجئين والمستوطنات)، بأفق ديمقراطي إنساني.

الآن نحن أمام خيارات محدودة، فإما يتم إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، أو تحول إسرائيل دون ذلك، كما تعمل. وفي الحالة الثانية إما سنكون أمام مشهد قيام نوع من إدارة ذاتية فلسطينية، أو مشهد قيام إسرائيل بمواصلة سيطرتها كدولة محتلة، بحيث ينشأ نوع من حكم عنصري/استعماري في الأراضي المحتلة؛ هذا عدا احتمالات إقليمية أخرى (مع الأردن مثلا). بالنسبة للمسار الأول فهو لن ينهي مسائل جوهرية (قضية اللاجئين ومكانة فلسطينيي 48 ويهودية إسرائيل وعنصريتها وعدوانيتها) والمسار الثاني، يفتح مجال النضال ضد الاستعمارية الاحلالية العنصرية لإسرائيل. فكلا المسارين يفتحا، عندنا وعندهم، على مواصلة العملية النضالية من اجل حل إنساني ديمقراطي على قاعدة التكافؤ والعدالة النسبية، وهو ما يتمثل بالدولة الواحدة، ثنائية القومية أو دولة مواطنين؛ وبديهي أن الحل الأول ربما يكون الأقرب كونه يتجاوب مع حاجات كل طرف للتغبير عن ثقافته الخاصة وعن ذاته "القومية".

ثانيا، طوال العقود الماضية قدم الشعب الفلسطيني تضحيات كبيرة ولكنها لم تترجم إلى إنجازات، بسبب تخلف الحركة الوطنية، وطريقة قيادتها المزاجية والتجريبية. أما النضال ضد العدو، فقد اتسم بالكثير من الفوضوية، ولم يخضع لحسابات استراتيجية، ضمنها حسابات الجدوى، والاستثمار السياسي، وإثارة التناقضات في المجتمع الإسرائيلي، وجلب التعاطف الدولي. لذا فمن المطلوب إعادة الاعتبار لمفهوم المقاومة الشعبية، التي أرست أسسها الانتفاضة الكبرى الأولى، ومختلف مظاهر النضال المدني الديمقراطي الذي يخوضه فلسطينيو 48 ضد العنصرية، ومن أجل الدفاع عن حقوقهم المدنية/ الفردية، وحقوقهم كجماعة قومية، في مجال الهوية والكينونة والسلام، ونزع الطابع العنصري والاستعماري والعدواني عن إسرائيل؛ وهذا لا ينتقص من شرعية المقاومة المسلحة، ضد مظاهر الاحتلال الاستيطانية والعسكرية في الأراضي المحتلة عام 1967، والتي تتوافق مع معطيات الشرعية العربية والدولية، وتفسح في المجال أمام تصاعد النقاش الداخلي في المجتمع الإسرائيلي، حول جدوى الاحتلال والاستيطان.

ثالثا، ضرورة مراجعة الحركة الوطنية لبناها وأشكال عملها وعلاقاتها الداخلية وأشكال نضالها. إن تدهور حال الحركة الوطنية، على مستوى المنظمة والسلطة والفصائل والمنظمات الشعبية، بات يتطلب إعادة صوغ هذه الحركة على أسس وطنية، بعيدا عن الحسابات الفصائلية. وعلى أسس نضالية، منزهة عن علاقات المحسوبية والزبائنية والأبوية. وعلى أسس مؤسسية وليس مزاجية أو عفوية. وعلى أسس ديمقراطية، تعيد لهذه الحركة روح التنوع والتعددية.

لقد تأخرت الحركة الوطنية الفلسطينية كثيرا بمراجعة أوضاعها، ونقد تجربتها، ما وضع القضية والشعب والحركة الوطنية في دائرة الخطر..وآن الآوان للخروج من هذه الدائرة، ومن هذا الاستعصاء الوطني المزمن.

التعليقات