31/10/2010 - 11:02

نفاق طيب ونفاق خبيث../ جميل مطر*

نفاق طيب ونفاق خبيث../ جميل مطر*

أصبحنا نجد صعوبة في التعرف إلى مواقف ثابتة ومستقرة للمرشحين لمنصب الرئاسة في الحملة الانتخابية الأمريكية من قضايا متعددة. فالمرشحان يتراجعان ويترددان إلى حد دفع بعض المعلقين الأمريكيين إلى فتح ملف “النفاق في السياسة”، ولعله الملف نفسه الذي يتصدر الملفات التي يهتم بها المعلقون والمحللون في دول العالم كافة. فقد شغلت قضية النفاق بال المهتمين بأحوال الأمم ورجال الحكم والسياسة والإدارة أكثر من أي قضية أخرى، وربما أكثر من الفساد والانحلال وتدهور الأخلاق وانحدار التعليم وانفراط الأمم. وأستطيع أن أفهم هذا الأمر فالنفاق أساس بل هو روح كل هذه القضايا، ومن دونه لن توجد هذه القضايا.

المرشح للرئاسة منافق إذا وعد بوعود يعرف أنه لن ينفذها، وإذا تعهد وعاد عن تعهده خلال الحملة أو بعدها، وإذا وعد وفي نيته عدم التنفيذ. وبالنسبة لي شخصياً مازلت غير واثق تماماً إن كان الرئيسان كلينتون وبوش صادقين حين وعدا بتحقيق سلام وإقامة دولة فلسطينية مستقلة ووقف الاستيطان، أم كانا واثقين عندما أصدرا وعدهما بأنهما لن يتمكنا من تحقيق الوعد، أم أنهما كانا يمارسان الخداع بنية وسابق إصرار. في كل الأحوال كانا، في حكم الأخلاقيات المثلى للسياسة، منافقين.

خرج أساتذة علم نفس، في مناسبة التغيرات المتلاحقة وغير المنتظمة في مواقف المرشحين أوباما وماكين، بعبارة “النفاق الأخلاقي”، لوصف حالة رجل دولة يصدق بقلبه ما يقوله ويفعله ويعد به، ثم يعود عنه. والقصد من صك هذه العبارة التمييز بين هذه الحالة من النفاق الأخلاقي وبين حالات “نفاق خبيث” مثل تورط رجل دين في فضيحة جنسية أو رجل دولة في قضية رشوة وسرقة أو قاضٍ أصدر حكماً قاسياً على متهم بجريمة أو جنحة سبق أن ارتكبها القاضي نفسه. المنافق الأخلاقي يقنع نفسه أنه فاضل وملتزم الأخلاق النبيلة والكريمة حتى عندما يتراجع عن موقفه النبيل والفاضل ويرتكب هو نفسه خطيئة من الخطايا التي يعيب على الآخرين ارتكابها.

من الأمثلة اليومية ما نقرأه بأقلام ممثلي جماعة أو حزب أو تيار في انتقاد سلوكيات أشخاص ينتمون إلى جماعات أخرى. وجدنا، ونجد هذا كثيراً في الاتهامات المتبادلة بالتمييز الديني ضد مذهب أو آخر، وفي الاتهامات بعدم تداول السلطة والمناصب ورفض الالتزام بالسلوك الديمقراطي واحترام الرأي الآخر. القاعدة هي أن أبناء الجماعة الواحدة يتساهلون دائماً مع أخطاء جماعتهم ويتطرفون في الحكم على أخطاء الجماعات الأخرى. والأمر نفسه يقع على المستوى الدولي، فممارسات الدفاع عن الوطن قد تكون بالنسبة لي شخصياً تجسيداً لوطنية فرد بينما هي عند غيري تجسيد لميول إرهابية، كما أن الاستشهاد عند فرد انتحار وعمل إرهابي عند آخر.

كذلك نسمع، وبدهشة هائلة، ليبراليين ومدعي حضارة وتمدين يعترضون على التعذيب الذي تمارسه وكالة الاستخبارات الأمريكية في معسكر جوانتانامو مع المشتبه فيهم من المسلمين المتهمين بالتطرف، وتمارسه أجهزة الأمن في العراق وسوريا ودول عربية عديدة ضد خصوم الحكومة، ولا يعترضون بالقوة نفسها على تعذيب تمارسه أجهزة أمن في حكومة الحزب الذي ينتمون إليه ويتمنون أن يصعدوا فيه أو عن طريقه إلى مناصب أعلى أو ليحصلوا على مزايا اجتماعية ومالية أعظم.

قرأت لأحد كبار المحللين، آدم كوهين، تحليلاً يرفع بعض العتب عن التمادي في الشعور السائد بأن السياسيين وحدهم هم كهنة النفاق وحراسه. يقول إن السنوات الأخيرة شهدت انتشاراً واسعاً في عمليات الغش والخداع في أوجه الحياة كافة، وفي دول العالم كافة، وبين الأمم والشعوب كافة، وإن بدرجات متفاوتة. ويستند كوهين إلى استقصاء أجرته جريدة “وول ستريت جورنال” الأمريكية مع 20 ألف شخص من 19 دولة، منها 16 دولة أوروبية بالإضافة إلى تركيا وروسيا والولايات المتحدة. ويرى الكاتب، وأشاركه الرأي، أن لكل ثقافة فهمها الخاص للغش، فالغش في خان الخليلي مثلا يختلف عن الغش في سوق الخضار بالتوفيقية، والغش في أسواق هونج كونج يختلف عن الغش في سوق الأدوات الكهربائية في مدينة نيويورك، والغش الذي يمارسه أعضاء مجالس الإدارة في الشركات ليس من نوع الغش الذي يمارسه ملايين البشر في غرف النوم.

ويقترح الكاتب، وأضيف إلى اقتراحاته، أسباباً قد تشرح وإن كانت لا تبرر، شيوع ظاهرة الغش في الامتحانات ابتداء من محافظة المنيا جنوب مصر وانتهاء بالغش الرياضي بأولمبياد بكين. أما الأسباب الذي نقترحها سوياً وقد لا تحظى برضا الكثيرين من القراء فهي:

أولاً: اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، كواقع مصري وعربي وعالمي لا يمكن إنكاره. إذ تسببت هذه الفجوة المتزايدة الاتساع إلى حدود مخيفة في أن تزداد المنافسة بين الناس ضراوة وخداعاً وغشاً في محاولة من جانب الأقل حظاً لتضييق الفجوة.

ثانياً: اعتقاد متزايد، كاد يصبح راسخاً، بأن الشخص الناجح بمعنى الثراء أو التفوق العلمي أو المنصب، وصل إلى ما وصل إليه مستخدماً طرقاً غير شريفة ووسائل من خارج منظومة قواعد الأخلاق والقوانين، أو بتفصيل قوانين ولوائح وقرارات تناسبه ولا تناسب غيره. المؤكد من حال أجهزة الإعلام ومضمونها في بلادنا أن هناك من القضايا في المحاكم والفضائح في المجتمع ما يبرر شيوع هذا التفسير.

ثالثاً: تعددت بشكل واسع فرص ممارسة الغش والخديعة دونما خوف من اكتشاف الأمر، أو وهو الأدهى والأخطر على مستقبلنا، دونما خوف من عواقب وأضرار وعقوبات إن اكتشف الأمر. أكثر الممارسين للغش في أيامنا مطمئن إلى أن ضرراً لن يمسه وأن هناك من سيحميه ويحافظ له على ثمار غشه وخداعه.

رابعاً: لا يمكن إنكار أن ثورة المعلومات سمحت لأجهزة الإعلام كافة بأن تتوسع في تغطيتها لأنباء الغش والكذب والفساد والرشوة، ومنها مثلا التوسع في نشر أنباء الغش في الرياضة مثل استخدام المنشطات، والغش في الامتحانات. إذ تأكد من الاستقصاء الذي أجري مؤخراً أن 42% من الأوروبيين يعترفون أن الغش في الامتحانات صار مسألة شائعة، ويعترف 70% من السويديين الذين سئلوا بأن الغش في بلادهم ازداد. وأتصور أن هذا الاعتراف ما كان يصدر إلا عن شعب كالشعب السويدي يمارس الصدق أكثر مما يمارس الكذب. فقد لاحظت مثلا أن الإيطاليين، ومعروف عنهم ميلهم الدائم إلى المبالغة إن لم يكن الكذب، اعترف منهم ما لا يزيد على 9% بأنهم يغشون في الضرائب، بينما جاهرت حكومة برلين بأنها قررت إعادة امتحان أكثر من 28 ألف طالب ثانوي بسبب حالات غش واسعة جرت في امتحانات هذا العام.

خامساً: انتشار المدونات بكل أنواعها ومسمياتها أدى إلى انكشاف أمر لا يحب الناس تداوله أو الحديث فيه، وهو الغش في العلاقات العاطفية. فقد سجلت هذه المدونات حقيقة أن هذا الغش قائم ومنتشر إلى حدود لم تكن متصورة أو كانت من المحظورات في النقاش العام والخاص. قد يكمن وراء هذا الاهتمام الاستمتاع الكبير والمتزايد لدى عامة القراء بأخبار المشاهير من رجال السياسة والأعمال والفن، وبخاصة كل ما يتعلق بحياتهم الخاصة، وفي صدارتها تقلباتهم ومغامراتهم العاطفية.

يبقى أن انتشار الغش، إلى هذا الحد الذي نلاحظه أو نلمسه، يعكس في حقيقة الأمر حالة مجتمعات أصبحت العلاقات بين أعضائها تقوم أساساً على عدم الثقة وعلى الشك في صلاحية منظومة القيم، أو على الأقل ما تبقى منها، وأصبح يهيمن عليها نوع من الجشع لا يشبع، سواء كان جشع الثروة أو جشع المظاهر أو جشع العواطف، وكل الأنواع المماثلة من جشع لا يشبع.
"الخليج"

التعليقات