11/12/2010 - 11:43

تهجين لغة العرب../ سليمان تقي الدين

-

تهجين لغة العرب../ سليمان تقي الدين
يتعايش اللبنانيون مع الأزمات، وكذلك يفعل جميع العرب. هناك محرّك أساسي يضع ما يخصنا من قضايا على جدول الأعمال. تحوّلنا منذ زمن بعيد، وفي أحسن أحوالنا، إلى موقع دفاعي. قبلنا سلفاً جملة من القواعد والضوابط. أعدنا تشكيل واقعنا ووعينا ولغتنا وفقاً للعصر الأميركي. تعامل الغرب معنا بقسوة فائقة جعلتنا نخاف. أرهبتنا إسرائيل في كل مواجهة حتى نحسب ألف حساب. فقدنا جزءاً كبيراً من الثقة بأنفسنا فأعدنا صياغة حقوقنا بما يرضى «الذوق الدولي السائد». أسوأ ما حصل عندنا أن ما سُمِّي «واقعية سياسية» لدى الأنظمة، وهو في حقيقته انضباط في المصالح، صار لدى الجمهور والأحزاب والنخب موضع تبرير وتنظير.

المدخل السهل لكل ذلك هو التسليم "بنهاية التاريخ" عند سلطان أميركا. المفتاح الأساس أن نعترف بالعولمة لأنها القدر الذي سيشكل الإنسان المعولم. في مستقبل كهذا ولو على المستوى التاريخي البعيد، لا ثقافات وطنية ولا حقوق قومية، ولا أنماط حياة مختلفة، ولا هويات. انطوى التاريخ الماضي على مآسٍ بشرية، وعلى صراعات كبرى، ثم تجاوزها في الواقع والذاكرة. لماذا لا تكون فلسطين شيئاً من الماضي ذاته، من أرض تمّ استيطانها، ومن سلالة شعب انقرض، أو تمّ إدماجه في مكوّنات أخرى؟ هناك أسئلة استنكارية أخرى لا تنتهي. يعيدنا هذا المنطق إلى «الحتميات التاريخية» التي أنتجها الفكر الوضعي أو إلى «الحتميات الدينية» التي ما زالت تنبعث وتنمو رداً على محاولات إغلاق باب التغيير في العالم على موروثات القوة، أو على واقع السيطرة الراهنة.

تتلبّس جميع المشاريع السياسية لغة الحتميات، بينما يمكن للتاريخ أن يتقدم من أماكن ومعطيات مفاجئة. انهار الاتحاد السوفياتي. انخرطت الصين في المصالح مع أميركا. خرجت إيران من ركائز السيطرة الأميركية. استدارت تركيا شرقاً. ربما يحمل المستقبل الكثير. الإمبراطورية الأميركية هي نفسها حصيلة معطيات تاريخية متناقضة. يحمل المارد الأميركي الكثير من التناقضات. أنتجت الديموقراطية الأميركية وليبراليتها فاشية في ستينيات القرن الماضي مع ظاهرة «المكارثية». ثم أنتجت مع المحافظين الجدد مطلع هذا القرن العنصرية. ثم حاولت إنقاذ نفسها من الصدامات الواسعة مع كثير من المصالح مع ظاهرة أوباما. ثم عادت تنقلب عليه بأسرع مما توقع البعض.

انحسرت موجة الانفتاح والأنسنة الاقتصادية التي هبّت مع الأزمة المالية، ثم انكسرت أمام افتضاح السياسة الخارجية الأميركية التي تشد عصب المطالبين بالمزيد من إجراءات التحفظ والمحافظة والتشدد. ربما كان لفضيحة «ويكيليكس» التحريض على ذلك. يستسلم أوباما لما يعتبرها لبعض إهانات إسرائيلية. لكن الرئيس الأميركي كان يتودد منذ البدء للوحش الإسرائيلي ويخاطبه بالحسنى، ويغدق عليه وسائل القوة بالسلاح وبالأمن والقبول بالمشروع الإسرائيلي المتجدّد لتصفية قضية شعب فلسطين. يتراجع أوباما أمام نتنياهو، ويتراجع العرب أمام أميركا، ولا نملك فكرة واحدة لها مفعول سياسي مباشر لكبح غول الاستيطان. لم يعد وقف الاستيطان لمدة متزامنة وجيزة مع المفاوضات مطلباً أميركياً. صار على الفلسطيني تماماً أن يفاوض لأجل التفاوض ولكي يكون له «بعض الأمل» كما قال أوباما.

لم نكن نحسب أننا نعيش في زمن يُقال لنا فيه: خذوا حي «أبو رديس» وسمّوه القدس. اذهبوا إلى الأردن وسمّوها مملكة فلسطين. خذوا هويات من سلطة رام الله وتجذروا فيالشتات. وطِّدوا السلالات الحاكمة وورِّثوا الخلف الأسروي وسمّوها جمهوريات وديموقراطية. تعاقدوا في ما بينكم كطوائف ومذاهب وقبائل واعتبروها اتحاداً سويسرياً. حاصروا غزة وسمّوها إمارة فارسية شيعية. واجهو مقاوماتكم واطلقوا العنان لثاراتكم وتألّبوا على بعضكم وغذوا عصبياتكم وقسِّموا شعوبكم وتعالوا إلى حضن أميركا وعدالة المجتمع الدولي. خذوا الملايين من المساعدات ورتِّبوا ديون المليارات على شعوبكم لمصلحة الخزائن العالمية. هاتوا نفطكم ومال نفطكم وماء نيلكم وفراتكم وخذوا خردة السلاح. قاتلوا الأصولية بالسلفية، والسلفية بالبهلوية، والعروبة بالعثمانية، واجعلوا إسرائيل حكماً بين هؤلاء.

قولوا إن التوراة حق والتلمود حق وما تستنتجه إسرائيل حق لئلا تُتَّهموا بالعداء للسامية. قولوا إن مملكة إسرائيل فاتحة عهد جديد للنبوءات، فإن اكتمل سعدها خرج عليها مخلص آخر. قولوا إن عذاب المجتمع الدولي وظلمه اختبار لنوايا المؤمنين وصلابتهم. اعترفوا أن بوش وشيراك وبلير وميركل وبرلوسكوني يريدون إنقاذكم من براثن الجهل والتخلّف وينضِّجون عقولكم على نار «الرصاص المسكوب» و«عناقيد الغضب» و«عاصفة الصحراء»، وأنهم وزّعوا قربان البشارة في العراق والكعك المخضب في لبنان، وأنهم يحافظون على الأرز لهيكل سليمان الجديد. قولوا إن لبنان فينيقي جبَّه الكنعانيون، وإن مصر حكمها الفرعون وكافور وإن عبد الناصر «بكباشي انقلابي».
 
قولوا إن ياسر عرفات مغامر «مخرّب» أرحناكم منه بالسم. قولوا إن المقاومة تقتل، وإن الكرامة ثقافة موت، وإن وسط بيروت عاصمة العالم والعواصم ودرّة تاج الأمم، وإن باب التبانة وجبل محسن كحل عين الإعمار، وإن الجنوب منطقة عاصية على الدولة وعاصية على مواثيق الهدنة وإن مياه الجنوب مالحة ثقيلة فلا تستحق التعليب والتجارة.

قولوا إن العربية بائدة، والعرب بائدون، واشكروا نِعَم السلاطين الذين يحققون التنمية البشرية المستدامة، والمحسنين الذين جعلوا الشعب اللبناني، الذي روّض الصخر والجبال والبحر، جماعة من المعوقين الذين يستحقون الإحسان والصدقة. كثيرون يستظهرون ذلك عن ظهر قلب ويثبتون بفصاحة على الشاشات والصفحات والمنابر، وحتى وهم يخدمون إلهاً واحداً ولا يشركون فيه.

أليس خطيراً أن ننشغل، كلبنانيين وكعرب، شعوباً ودولاً، في مهمة تطويق تداعيات المحكمة الدولية، بينما لا أحد يسأل عن جرائم إسرائيل وأميركا؟ فمَن ينهض بلغة العرب؟
"السفير" 

التعليقات