14/02/2011 - 10:33

كلنا مصريون.. / نصري الصايغ

شكرا يا مصر.. من حقنا أن نفرح.. ملأتنا الأحزان ذات «نكبة». صرنا خوابي الألم لحظة نكسة بعمق أبديتين وأكثر. من حقنا أن نطير فرحاً

كلنا مصريون.. / نصري الصايغ

شكراً يا مصر.
من حقنا أن نفرح.. ملأتنا الأحزان ذات «نكبة». صرنا خوابي الألم لحظة نكسة بعمق أبديتين وأكثر.
من حقنا أن نطير فرحاً. عاقرتنا الهزائم: القدس للجنود الغزاة، ولا صلاة فيها، بل بكاء.. بيروت، للسماء المنذرة بالقصف، للأبواب المشرعة للقتل، لإسرائيل تحتلها في منتصف الليل الحزيراني... (كم أكرهك يا حزيران. النكسة فيك، وحصار بيروت من عندك).

شكراً يا مصر.
من حقنا أن نبتسم. أن نعبئ رؤوس أصابعنا بدمع الفرح، عندما نمسح ضحك العيون وقد أشرقت بغيض من القلب، فاهتدت إلى طريق الخلاص.
من حقنا أن نصافح بعضنا بطريقة فذة، كأن نخترع صباحية أخرى نفتتحها بـ: تحيا مصر. كأن نختم يومنا بمسائية نرفع فيها نخب تونس.. من حقنا أن نزغرد، أن نرقص في الأمكنة ذات الاحترام السخيف. من حقنا أن نسير بصوت مرتفع وبهتاف شاهق: "ارفع رأسك يا أخي".

شكراً يا مصر.
لأنك، بعد تونس، سكبتِ في روحنا روحاً تنافس السماء. لم نعد نسير على أقدامنا. كأننا، تقودنا جباهنا العالية ورؤوسنا المرتفعة وقلوبنا المشرَّعة للانتصارات المنتظرة: اليمن يستعيد سعادته ويشيل «قاته» من عرش السلطة. محميات الخليج تنفق أموالاً لسد أفواه بعدما سدت ذمماً وحبراً وإعلاماً... ولن ينفع إنفاق شقيق للنفاق... ثورة المليون في الجزائر تستعيد ريفها، فتخشى المدينة منها وتقفل أبوابها بالعسكر.

شكراً يا مصر، واعذري أفراحنا التي لا نتقن فنونها، تعبيراً وإبداعاً. أغانينا حزينة. نشيدنا الوطني كأنه مستعار لنا وليس منا. لم نشعر به إلا عندما سمعنا بلادي بلادي، ترتفع حناجرها كالصواري، فوق هامات السلطة المنحنية والرثة.. اعذرينا لأننا مبتدئون في الأفراح الحقيقية، لندرتها واختلاطها الدائم بعِشرة السوء، فنحن من الهزائم ولدنا، وشبان فيها، حتى أصبح كل واحد منا، جزءاً من مراثي إرميا العربي.

شكراً يا مصر، لأننا ولدنا مرة أخرى، بعد ولادتك البهية، يا بهية الدنيا، ومحروسة القلوب. كل واحد منا، ولد معك. مخاضه كان في تونس. مذودنا السياسي، حضنك يا مصر، يا أمنا التي، بعد اليوم، كامل قبلتنا، إن طردت آلهتها القدماء: الاستبداد والفساد ودعارة الكلام، وإن فازت بإقامة تقليد جديد، يقدس الحرية، إذ لا مقدَّس دنيوياً يعلوها. وإذا أقامت للديموقراطية طقساً أصيلاً لا هرطقة عسكرية فيه، ولا مذهب أمنياً له، ولا قائد مؤبداً فيه. وإذا جعلت من الإنسان المصري، قدسها الدائمة. فكل ما في الدنيا مسخر لخدمة الإنسان.. أليست هذه جواهر الأديان؟

شكراً يا مصر، لأنك كذّبتِ الأنبياء الكذبة. التاريخ الجديد، يبدأ منك. نهاية التاريخ أعلنت أنها آخذة معها، تاريخ الملوك والبرابرة والهمج والبلطجية، المحليين والدوليين، المقيمين والأوصياء، المبشرين بفضائل الفساد وعقيدة الكسل.. شكراً، لأنكِ أعلنت نهاية حقبة العقم السياسي، وفزت برحمٍ خصب، سيصل فيه نسلك إلى أقاصي الأرض.

شكراً يا مصر، لأن غدك نقيض لأمسك. لأن حياتك الجديدة نقيض لموتك السالف. ولأنك، ستغيرين وجه التاريخ... هنا وهناك وهنالك، تماماً، كما تغير العالم بعد سقوط جدار برلين، وتماماً كما تغيَّر العالم بعد سقوط الشاه، وتماماً كما تغيَّر العالم، بعد سقوط بن علي ومبارك. وكم سيكون العالم جميلاً، عندما يلتحق بالسقوط، جدار العار في فلسطين، وجدار العار المهين في غزة، وجدران أصحاب القرار، في عواصم الاستبداد والاستكبار العولمي. ولكم سيبدو العرب في زيهم الحضاري والإنساني النبيل، عندما يتم تكنيس هذا الهيكل المقدس، من أبالسة القيادات والسلطات المستبدة، القوية على شعوبها، والتي قبلت أن تكون ذئباً تبعياً، يتحرك وفق آلية «القفا» الدولي.

لا طاقة لنا على صرف هذا الفرح بطريقة تقليدية، لأننا أتقنا، على مدى عقود عجاف، كل فنون البكاء. أمنا الخنساء يا مصر. وكنا أوفياء لدمعها على أخيها. لم نعش التراجيديا اليونانية. كنا نحن التراجيديا. نذهب إلى النهضة فنطعنها في وجهها. نؤم الثورة، فنسقط برصاصنا، ويبتهج العدو. نجنّد لغتنا لتحرير فلسطين فتخوننا الأصابع قبل أن تطلق زناد النار. كنا ذاهبين إلى فلسطين من الماء إلى الماء، فصارت فلسطين، ما تبقى من تخوم الصحارى العربية والإنسانية، وحيدة، بلا مأوى، سوى أقبية البيت الأبيض، ووزارة الخارجية الإسرائيلية، برعاية أبو الغيط في شرم الشيخ. كنا نريد حرية للعراق، فقادت واشنطن جحافلها وصنعت للديمقراطية تابوتاً يشبه صناديق الاقتراع، يقترع فيه العراقيون لطوائفهم ومذاهبهم بالقنابل والأفخاخ والزنانير المتفجرة. فصرنا يا مصر بلا عراق، بل بأعراق في بلد، كان ذات عصور، عراقاً عصيَّاً.
أدمنّا الخسائر. قامرنا بالمبادئ وخسرناها. قامرنا بالدين فأدنفناه. قامرنا بالشعب، فبددناه. قامرنا بالأمة فوظفناها أَمَة. قامرنا بالإنسان، ففاز به قراصنة السياسية، وجنرالات التسلط، وأصحاب الشيكات المالية، ذات السيولة الفائضة من جيوب الشعب، أغنيائه وفقرائه وبؤسائه.

شكراً يا مصر.
شكراً، لأن هذا الفرح الجديد، توأم لفرح التحرير. تآخى 25 أيار مع 25 يناير. الأول، أخذنا إلى طرد الاحتلال الإسرائيلي من لبنان، وبشرنا بطرد الاحتلال الإسرائيلي من فلسطين والجولان. الثاني، أقنعنا بأن الثورة الديموقراطية، هي المستقبل الأكيد، لأمة، كُتِب عليها، زوراً، أنها تألف الاستبداد، وأن التخلف ثقافتها، وأن دينها مشكلتها.

25 أيار، بداية عصر التحرير والانتصارات.
25 يناير، بداية عصر الديموقراطية... وعصر: ارفع رأسك يا أخي. ارفع جبهتك يا أخي.
اكتمل بك يا مصر، عقد التاريخ الجديد، الذي تصنعه أجيال جديدة، تشبه جيلك الجديد: جيلاً مجهول الإقامة المحددة، في ما ألفناه من إقامة "المناضلين" القدماء الدائمة، في مراكز أحزابهم وتياراتهم ومذاهبهم ومؤسساتهم.

هنيئاً لنا بجيل وُلد من خريطة جديدة للوطن. لا يتقن التفلسف والنقاشات البليدة والمتطاولة، حول نص سياسي، يبدأ دائماً بالعبارة "العبقرية" التافهة: "في مثل هذه اللحظة التاريخية الحاسمة من تاريخ أمتنا". جيل لا يتقن الجدل حول جنس العقائد، وجنس المذاهب، وأجناس المعتقدات. جيل من العمق، ما يجعلنا نذهل بما لديه من وعي أصيل، بلغة رائعة الركاكة. بل، إن جمالها بركاكتها، لأن عبقريتها ببلوغها غايتها في الإفهام والانجاز. لغة تقول ما تفعل، ولا تقول ما لا تنجزه. جيل فذ، ولد من رحمه الخاص، لا يمت إلينا بصلة. فلا هو يجتر مبادئ ومعتقدات ومُثلاً.

والدليل... هذه الثورة العظمى، أكرر، الثورة العظمى، التي تركزت حول عدد قليل، قليل، قليل من الكلمات.
أليس الإيجاز إعجازاً يا "الجاحظ" ويا "ابن جني"؟ أليست الثرثرة القومية واليسارية والدينية عجزاً وعُقماً وتعبيراً عن فشل يا "الأحزاب" و"الطوائف" و"التيارات" المحتفلة ببياض "البوشار" الفارغ؟

شكراً مصر، لأنك أخرجتنا من اللعنة. لأنك أسقطت عنا الصخرة. لم نعد سيزيف القرنين، العشرين والحالي. كنا ئيسنا منا. لا إصلاح بل تخريب. أليست تلك مسيرتنا؟ لا عروبة، بل تغريب. أليست الطائفية والقبلية والإثنية، الوريث الشرعي للعروبة المغدورة؟ لا استقلال، بل تبعية. أليست أميركا هي المرجعية الشرعية لأنظمة استبدادية، نطيعها ولا نرضيها؟ لا تنمية بل نهب مستدام، إلى آخر ما أبدعناه من تهافت وسقوط، بلا ثمن.

شكراً مصر، لأننا عدنا إلى وطن سواء، وليس إلى التواء. ولأنك كذلك، فرحنا بك، فلأول مرة، منذ ربع قرن، خافت إسرائيل منكِ. عميت واشنطن فلم تقرأك بفهم. صرت لغزاً لها. أما أوروبا، فقد أصبتها بدوار وطنين سياسي في أذنيها وارتخاء بمفاصلها. خسرت بن علي على مضض. ثم خسرت مبارك على وهن. تساءلت: رئيسان حليفان معاً!

ليت «قاعدة» بن لادن تستقيم في قراءة آيات الوقائع، التي جاءت أصدق أنباء من الكتب، كل الكتب. يا لسحر ما أقدمت عليه تونس ومصر. بلا ضربة كف، طردت جموع شعبية متواضعة، أعتى دكتاتورين، فيما "القاعدة"، داشرة، على هوى زنادها، تقتل وتشعل وتنحر، كل من لا يشبه ولا يتشبَّه بجاهليتها الإيمانية، لأن الدين الإسلامي أنقذنا من الجاهلية السالفة.

ماذا كانت نتائج عنف القاعدة؟
المزيد من الدكتاتورية والاستبداد. المزيد من التنكيل بالمسلمين المؤمنين إيماناً خالصاً، المزيد من محاصرة الحركات الإسلامية المجاهدة، المزيد من تقطيع الأرجل والرؤوس والافئدة، المزيد من التمذهب والتطيف. والمزيد من الإقامة في المغاور النائية، التي لم تجد عاصمة روحية تنتمي إليها سوى طورا بورا.

شكراً يا مصر...
نحن بانتظار اكتمال ولادتك، لنحتفل بك مرة أخرى، عندما نصير مثلك. غداً، يتوقع ان تتوجي نضال شبابك بثلاثة انجازات كبرى، تؤسس لمصر الجديدة:

أولاً: ديمقراطية مكتملة النصاب، دستوراً وقوانين، وقيادات منتخبة، انتخاباً يمثل ألوان المجتمع المصري وأطيافه، بمن فيها الأخوان المسلمون.
ثانياً: عدالة سياسية وقضائية واقتصادية، إذ سقطت تجارب لم تُقم توازياً بين العدالات وتعميماً لها. ومقياس هذه العدالة الشفافية والنظافة والمحاسبة، ثواباً وعقاباً. ولعل من المفيد أن ينص الدستور والقوانين على ضرورة ممارسة الطلاق المبرم بين السلطة والمال. كل من يتعاطى السياسة، موالاة ومعارضة، على دفتر حساباته أن يكون شفافاً، وموطَّنا في مصر، واعتبار كل توطين خارج مصر، خيانة صغرى، تعاقب كخيانة كبرى. ولعل من المفيد الاعتبار من جرائم عصر النازية المالية، حيث تباد شعوب وتُضطهد شعوب وتجوَّع شعوب (ملياران)، لأن قلة من السياسيين المفترسين، تردع شعوبها وتنهبها، على مرأى من «قديسي» البنك الدولي، ومنظمات «حقوق الإنسان» والدول «الديموقراطية الاحتكارية»، كم ثروة مبارك؟ كم ثروة بن علي؟ كم ثروة مصاصي دماء الشعب العربي، والشعوب الأفريقية واللاتينية والآسيوية؟ ومعظم اللصوص الوطنيين، محميون دولياً، في «الجنات الضرائبية»، النموذجية في ممارسة السرية المصرفية.
ثالثاً: محاسبة العهود البائدة، ليس للثأر منها، بل لإعادة الحق إلى نصابه الشعبي والوطني. وكي نجرؤ في ما بعد، على تسمية الأشياء بأسمائها: فنقول للرئيس اللص، فخامة اللص. ونقول للقاتل، أنت قاتل. ونقول للطائفي (هذه فقط في لبنان) أنت طائفي، ومشروع قاتل ومشروع حرامي أو مشروع حامي الحرامية والقتلة. انظروا حولنا أمراء الحرب والمال والطوائف... يا إلهي!

ولأنك يا مصر أمنا بالتبني السياسي والاختيار العروبي، فإننا نعلن، ليس تأييدنا (أضعف الإيمان)، بل نعلن انتماءنا اليكِ والتزامنا بك، مدركين أن المخاض الانتقالي عسير، وستتدخل دول عظمى لوأد طموح أبنائك، ولبلورة خيارات براقة ومهينة.
لأنك يا مصر، مصرنا كلنا، مصر فلسطين ولبنان والخليج والمحيط، نستطيع أن نشهر هويتنا السياسية الجديدة: "كلنا مصريون".
"السفير"

التعليقات