22/03/2011 - 13:55

بين إرهاب الدولة وإرهاب القاعدة../ أمين ناصر*

العملية الديموقراطية تمر الآن بمرحلة مخاض حقيقي يشهده العراق برمته، فإما ولادة مشوهة أو مخلوق هجين ليس له أدنى علاقة بالديموقراطية أو التمثيل الحقيقي لإرادة الشعب

بين إرهاب الدولة وإرهاب القاعدة../ أمين ناصر*
كنت أراقب عن كثب، بل لعلني أتدخل حيناً وأرفض حيناً آخر ما ينوي الإقدام عليه جيل كامل من شباب بغداد. جيل اكتوى بنيران الحروب والحصار واليتم والتهميش والإلغاء والفساد، جيل إن صح عليّ تسميته بجيل «النكسة العراقية» لأصبت، لما مرّ به وما زال حتى اليوم.

جيل اليوم في العراق من الشباب يشكل الغالبية العظمى من الوجود السكاني في أرض السواد. غالبية من عاطلين أو عمال مطابع أو مصانع، وطلاب غير قادرين على تحصيل فرصة عيش أقله مقبولة حتى لو أكملوا دراستهم وتخرجوا من الجامعات.

ريح التغيير التي هبت في المنطقة مرت بنسيمها على أبناء الرافدين، لا سيما أنهم أبناء وأرباب ثورات قيصرية أجهضت من قبل الأنظمة القمعية طيلة عقود. فالفرد العراقي لم يغرد أبدا خارج السرب، بل شأنه شأن الآخرين، حالماً كان ولم يزل بالمواطنة الصرفة وحقوق الإنسان التي يكفلها الدستور كالتظاهر.

فالمشكله اليوم هي في عسكرة الدولة وتحويلها إلى دائرة أمن عام كبرى ودوائر حرس خاص من أجهزة أمنية بوليسية، لا يعرف أحيانا حتى تابعيتها لمن، وإن اعتقد البعض بارتباطها المباشر بمكتب القائد العام للقوات المسلحة، كالفرقة الذهبية، أو ما يسمونها في العراق بالفرقة «القذرة» لما لها من سطوة على حريات الناس من دون الرجوع إلى أي اطار قانوني. هذا في بغداد ومدن الشرق والغرب والجنوب من العراق. أما في الشمال، فالمجاميع الخاصة وأسايش البيشمركة هي ذات السطوة الكبرى في قمع أي طرف.

العراق اليوم يعيش مشاكل كبيرة وخطيرة على حد سواء، فلا تشبه جغرافيته ولا نمط سكانه الحيواتي ولا عملية الانقلاب أو التحرير أو الاحتلال الأخيرة فيه أي عام 2003 أياً من تونس ومصر أو ليبيا أو أي بلد عربي آخر.

فحين كان العراقيون يتحركون للقيام بثوراتهم، ومنذ نجحوا ببعضها عسكريا وفشلوا سياسيا كالعام 1921، وفشلوا عسكريا ونجحوا سياسيا أي في الوصول إلى سدة الحكم وإن بعد ثلاثة عقود من الدكتاتورية على يد صدام، كما حصل في فوز الأحزاب الإسلامية برضى العم بوش الذي وافق لهم على قانون تحرير العراق، فكان الإنجاز عسكرياً والثورة أميركية بطروادة عراقية بينما وقودها شعب ضاق ذرعا بالاثنين. منذ ذلك الحين والمشهد به تعقيدات كثيرة.

وسبب فشل الثورات الشعبية أو الجماهيرية في العراق بات معروفا، لما يشغله هذا البلد من موقع، ولما تحمله زعاماته من انتماءات وولاءات بحكم الجغرافيا والتاريخ الأيديولوجي لهذا الحزب أو ذاك.
على سبيل المثال، عام 1991 وبعد الانسحاب من الكويت، قامت في العراق ثورة بكل ما تعنيه هذه المفردة من حركية ودينماكية، وهرب «القائد» وسقطت مدن ومحافظات العراق من الشمال إلى الجنوب على يد الثوار العراقيين عرباً وأكراداً شيعة وسنة، باستثناء مسقط رأس الرئيس العراقي صدام محافظة تكريت ومحافظة ديالى التي أطلق عليها صدام نتيجة تصديها للثوار تسمية المحافظة البيضاء أو البعثية. وفي الشمال العراقي كان الحزبان الحاكمان الاتحاد والديموقراطي الكرديان قد أحكما قبضتيهما على السليمانية ودهوك وأربيل، وثمة اشتباكات وقعت في كركوك لم تمكن البيشمركة من الزحف إليها ووقعت بيد الثوار العرب.

تفاصيل وتداعيات هذه الانتفاضة - التي أسماها الشيعة بالشعبانية، نسبة إلى وقوعها في الخامس عشر من شعبان تقريباً وهو يوم ذو بعد أيديولوجي يرتبط بولادة المهدي، بينما أسماها الكرد بانتفاضة الاستقلال - ما زالت عالقة في أذهان العراقيين حتى الآن لشعورهم بالخذلان الكبير والحيف الذي أصابهم من قوات التحالف الأميركي التي أخذت تتفرج على قمع انتفاضتهم في الجنوب من قبل الحرس الجمهوري الخاص لصدام حسين. وهو ما كتبه المؤرخ البريطاني تشارلز تريب في كتابه "تاريخ العراق" (إن المدن الشيعية المتمردة تعرضت لأبشع انتقام)، قول أكده السفير الأميركي السابق في العراق زلماي خليل زاده أثناء حفل توديعه (أشعر أننا لم نفعل الصواب بعد حرب تحرير الكويت، وأعتقد اننا أخطأنا فيما يتصل بتركنا عراقاً يخضع لعقوبات صدام).

ومشهد عدم نجاح الثورات في العراق هو مزيج بين ذلك وأمور اخرى، والتي من بين أخطرها هو التقسيم الفعلي للعراق، وإن كان تحت مسمى فدرالي او اتحادي. حيث فيما بعد حصل الاكراد في منتصف آذار 1991 على حماية كاملة بما فيها الجوية من قوات التحالف الأميركي والبريطاني، والتي سمحت لهم بالتالي بتشكيل قوس يعدونه حقاً تاريخياً، يمتد من غرب الموصل شمالا إلى شرق بغداد جنوباً ويشمل مناطق سنجار ومخمور قرب الموصل بالإضافة إلى كركوك «قدس كردستان» مثلما يحلو لمسعود البرزاني أن يسميها.

ففي الوقت الذي ألصقت فيه تهمة العمالة لإيران بالمنتفضين الشيعة، وحصلت بأبنائهم ورموزهم المجازر، أسس الكرد دولتهم على ركام حروب الحزبين في الإقليم واشتباكاتهما التاريخية التي امتدت إلى أواخر التسعينيات عسكريا لتنتهي بوقف مشروط لإطلاق النار، ولم تنته سياسياً، وأخذ كل من مسعود وجلال على عاتقهما التأسيس لبقاء حزبيهما ضمن هذا الإقليم الذي قسمت كعكته بين عائلتي الطالباني والبرزاني.

وظل الجنوب العراقي والوسط الشيعيان كما بغداد ينزفان تحت حصار فرضته الولايات المتحدة الأميركية على الشعب لا على النظام، فهو يعيش في قصوره المجهزة بينما يفترش الشعب الأرض ويلتحف السماء، تداهمه أجهزة القمع البعثية بأثر رجعي بسبب الانتماء إلى "حزب الدعوة العميل" كما كانت تسميه السلطة حينها أو الأجندة الفارسية في العراق.

إثنا عشر عاما من الانتفاضة الشعبانية إلى سقوط صدام، وثورات صغيرة هنا وهناك وانتفاضات استخدم فيها القمع تماما مثل ما استخدمه "الأخ العقيد القذافي"، إلا أن العراق يرزح تحت قبة عزل جوي، وكأننا في تلك السنين كنا نعيش في زمن آخر.

الآن وقد تغير النظام، وأبناء الرافدين يشعرون بالخيبة، فقد سرق منهم حق الفخر بالنصر أجنبي وافد من الخارج، ومثله في كل من الرئاسات الثلاث أشخاص لا يرتبطون وإياه بحرارة الصيف وقرص البرد وموت الجوع وسني الحصار، أشخاص ترقرقت أيديهم ونعمت أناملهم من العيش على نفقات الأمم التي كانت تنفق على هذا الحزب أو ذاك، أشخاص لا يدركون كيف كانت «حياة شرارة» تتسوق ربع كيلوغرام من البطاطا كوجبات غذاء لها ولابنتها قبل أن تقررا الانتحار ولا هذا الذل والعار.

شعب أحرق أبناؤه أنفسهم عشرات المرات، من أحمد جلوب وجواد الموسوي ونجم عبد عطية وشيرزاد مصطفى وآخرين، نعم أمام العلن في بغداد وخانقين، ضد الجوع والفقر والذل والحرمان، ضد طغيان صدام وساسة كردستان، ضد الغاب ومن أجل الإنسان، كانت شعارتهم هكذا حتى «تحرر العراق» ويبان المستور.

ففي الذكرى العشرين أو قبلها لاستقلال الإقليم الكردي أو منحه حقوقه الاتحادية أو الفدرالية منذ أن كان يقبع تحت الحكم الشمولي وأحيانا الذاتي، وبعد أن صار لهذا الإقليم برلمان مشرع ودستور وعلم ونشيد ولغة وعملة وخارجية، ووزارة دفاع «البيشمركة» يرأسها جعفر مصطفى، وحكومة يتناوب عليها الحزبان الحاكمان، ورئاسة إقليم أبدية للملا الزعيم مسعود البرزاني الوريث الأوحد للملا مصطفى البرزاني، بالتزامن مع هذه الذكرى تحرك شباب كردي عاصر حكم الحزبين وحروبهما وجثومهما على مفاصل الإقليم البشرية والطبيعية وموارده وسياسته. ونظموا مظاهرة سلمية تدعو إلى مطالب واضحة وشفافة: تغيير وإصلاح، مما دفع بقادة الإقليم إلى عد هذه المظاهرة خارجة عن الشرعية، بل إنها من تدبير «نيشروان مصطفى» صاحب حركة التغيير الكردية، مسمين المتظاهرين فيها بأنهم من أعداء شعب كردستان ومثيري الفتن.

وهكذا الأمر في بغداد، حيث ركب مطية التظاهرت التي يهيئ لها منذ تظاهرات مصر في 25 يناير شباب عراقيون من مختلف الشرائح والطوائف والمستويات، ركب هذه المظاهرات بعض المندسين فعلاً، البعيدين عن جو المطالب التي ينادي بها المتظاهرون، لإفساد الحشد لها وحصرها في زاوية البعثيين والصداميين والتكفييرين. توصيف عارضه المنضمون لهذه التظاهرة جملة وتفصيلا،لا سيما أنهم ممن يدينون البعث وصدام والإرهاب كذلك، وهم كذلك ينتمون إلى خلفيات يسارية وبعضهم ذو توجهات علمانية وآخر ليبرالية، بمعنى أن التحفيز الديني لم يكن عائقا أو محركا لهذه التظاهرة، برغم ما صدر من بيانات شجب أو تحذير أو تأييد. لكن ما حدث من تسريبات أجهضت التحضير أو دفعت إلى أخذ الحذر منه، حيث كانت تتحدث عن بعثيـين يحاولون الانقلاب على الشرعية المؤسساتية أو النظام الذي رعاه المالكي. بيد أن المطـالب برمتها وأن كان هنالك من مندسين، فلم تهتف أبدا برحيل نظام أو إسقاط حكومة، بقدر ما كانت مطالب خدماتية محضة في شقها الأول والآخر هو عنوان فاضح وواضح وصريح الفساد المالي والإداري ومحاسبة ومعاقبة المتورطين في سرقة وهدر المال العام.

تحركات عفوية في أغلب مدن العراق، بعضها يحاول الحفاظ على كل ما بقي له من «دمقراطية» نزفت حتى الرمق الأخير من البعث والاحتلال فالقاعدة والإرهاب، لتفاجأ اليوم بقتل من نوع آخر هو إسكات للصوت وإجهاض للحريات والحق المشروع في التظاهر.

نعم المشهد العراقي يختلف تماما عن المشاهد العربية وتحولاتها في المنطقة، بيد أنه المشهد الأكثر عتمة ولعله الأكبر خطرا. فعام على الانتخابات العراقية ولم تكتمل الحكومة بعد هذا في المشهد السياسي، عام ولم «ينتخب» حتى الآن وزراء أمنيون، عام والمشهد على ما هو عليه.

وخدماتياً وأمنياً، ثمانية أعوام منذ سقوط النظام والعراق يطفو على هذا النهر من الدم لا من النفط، فأهله فقراء وناسه ما زالوا يعيشون في بيوت التنك والشعر والطين. ثمانية أعوام والعراق يتصدر المراتب الأولى في التصنيف العالمي للفساد بعد الصومال. ثمانية أعوام وتكريس الطائفية والعرقية وإلغاء المواثيق الدستورية هي العامل اللاعب الأساس في تشكيلة الحكومة أو انتخاب رئيس الجمهورية أو رئيس البرلمان.
ثمانية أعوام والعراق كالسلحفاة بين نهضة الشعوب والأمم التي غيرت أنظمتها الشمولية والدكتاتورية. ثمانية أعوام وسياسة تكميم الأفواه وإسكات الناس هي المقياس...

حيث تقول منظمة مراسلون بلا حدود إن العراق هو أشد المناطق خطورة للصحافيين، وهو من البلدان التي تمارس فيها السلطة دورا سلبيا في تضليل الرأي العام. كما يقول جو ستورك، نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش: "بعد ثماني سنوات من الغزو الأميركي، فالحياة في العراق تتدهور بالنسبة للنساء والأقليات، بينما الصحافيون والمحتجزون يواجهون انتهاكات حقوقية جسيمة. اليوم يقف العراق على مفترق الطرق - إما أن يتبنى مبادئ إجراءات التقاضي السليمة وحقوق الإنسان، وإلا فهو في خطر التحول إلى دولة بوليسية".

ويضيف جو ستورك: "رغم التحسن الذي طرأ على الحالة الأمنية منذ عام 2008 مما أدى لانخفاض معدلات قتل العاملين بالإعلام، إلا أن الصحافة مهنة خطيرة في العراق. قام متطرفون ومعتدون مجهولون بقتل صحافيين وتفجير مقارهم ومكاتبهم. وتزايد تعرض الصحافيين للمضايقات والترهيب والتهديد والاحتجاز والاعتداءات البينة من قبل قوات الأمن التابعة للمؤسسات الحكومية والأحزاب السياسية. كما يسارع المسؤولون الحكوميون بمقاضاة الصحافيين ومطبوعاتهم إذا كتبوا عنهم موضوعات انتقادية. ويتابع : "مع مشاهدة ما حدث في شوارع مصر وتونس، على الحكومة العراقية أن تتخذ خطوات ملموسة من أجل حماية حرية التعبير".

العملية الديموقراطية تمر الآن بمرحلة مخاض حقيقي يشهده العراق برمته، فإما ولادة مشوهة أو مخلوق هجين ليس له أدنى علاقة بالديموقراطية أو التمثيل الحقيقي لإرادة الشعب.
"السفير"

التعليقات