01/11/2011 - 11:02

المنطقة العربية في لحظة تاريخية فريدة../ ماجد كيالي

وفي الحقيقة فإن التحوّل نحو الديموقراطية يعني أن النظام السياسي العربي القديم انتهى زمنه أو أوشك على الانتهاء، وأن ما كان مقبولاً من قبل الأنظمة، في تعاملاتها مع القوى الخارجية، لم يعد يتناسب مع الواقع السياسي الجديد، وهو ما يجب أخذه في الاعتبار

المنطقة العربية في لحظة تاريخية فريدة../ ماجد كيالي
كل شيء سينتظر في هذه المنطقة. القضايا والملفات والتحرّكات والاتفاقات، إذ ثمة ما يستوجب الانتظار حقاً بالنظر إلى التفاعلات والتطورات السياسية الجارية في عديد من البلدان العربية. ففي الأشهر الستة الماضية تمّت الإطاحة بثلاثة أنظمة عربية (في تونس ومصر وليبيا)، وثمة ثلاثة بلدان مركزية ومقرّرة في شؤون الشرق الأوسط والمشرق العربي هي مصر والعراق وسورية تبدو عرضة لاهتزازات سياسية كبيرة وعميقة لا بد سيكون لها أثرها على شكل النظام العربي وعلى تفاعلات الصراع العربي - الإسرائيلي. وفي الآونة الأخيرة تم الإعلان فجأة عن صفقة بين حركة "حماس" وإسرائيل، بوساطة مصرية، وتتعلّق بالإفراج عن الجندي غلعاد شاليت في مقابل أكثر من ألف أسير فلسطيني في السجون الإسرائيلية، في خطوة لافتة ربما يكون لها ما بعدها بما يخصّ رفع الحصار عن قطاع غزة، وربما بما يخصّ مكانة "حماس" وشرعيتها في النظام السياسي الفلسطيني.
 
أيضاً، ففي الأسابيع المقبلة سيتم الإعلان عن إنهاء التواجد العسكري الأميركي في العراق، وهو وضع ربما يفتح على تطورات جديدة، لا يمكن التكهّن حالياً في شأنها، أو بكيفية انعكاساتها على توازنات القوى السياسية في هذا البلد والمداخلات الإقليمية فيه.
 
فوق كل ذلك فإن المنطقة برمّتها تتغيّر، ليس فقط بفعل سقوط بعض الأنظمة، وإنما بفعل عوامل أخرى أهمها على الإطلاق ظهور الشعب على مسرح التاريخ وفي ملعب السياسة للمرة الأولى في تاريخ هذه المنطقة، بعد أن ظلّ لحقبة طويلة مغيّباً أو على الهامش، وتحوله أيضاً إلى فاعل رئيس في تقرير مستقبل المنطقة، وذلك بفعل الثورات العربية.
 
ويأتي ضمن هذه التغيرات التحوّل الحثيث نحو الديموقراطية، والإصلاح السياسي لجهاز الدولة، وهذان ليسا مجرد تفصيل عرضي أو ثانوي بالنسبة إلى بلدان المنطقة التي عانت ولعقود مديدة من غياب الدولة، بحكم تغوّل السلطة، ومن غياب المجتمعات بواقع إبقائها عند حدود الانتماءات ما قبل الوطنية، بالحؤول دون تحولها إلى شعوب وحرمانها من المشاركة السياسية.
 
وعطفاً على هذا الواقع الناشئ فقد بات اليوم ثمة فاعل جديد، حيّ وناهض، ويتمثل بالشعب الذي ينافح في سبيل حريته وحقوقه وكرامته وفي سبيل السيادة على موارده إزاء الفاعلين الدوليين والإقليميين الآخرين، وهو فاعل لم يكن بالانتظار ولم يكن يحسب له أي حساب في معادلات موازين القوى المتعلقة بالصراع على هذه المنطقة.
 
وفي الحقيقة فإن التحوّل نحو الديموقراطية يعني أن النظام السياسي العربي القديم انتهى زمنه أو أوشك على الانتهاء، وأن ما كان مقبولاً من قبل الأنظمة، في تعاملاتها مع القوى الخارجية، لم يعد يتناسب مع الواقع السياسي الجديد، وهو ما يجب أخذه في الاعتبار.
 
أيضاً، وضمن هذا التحوّل نحو الديموقراطية ثمة وافد آخر وجديد على الحياة السياسية العربية، والمقصود هنا نظم الحكم، ويتمثل بالإسلام السياسي، وهذا ما بيّنته تجربة انتخابات "المجلس التأسيسي" في تونس، إذ فازت حركة النهضة (الإسلامية) بغالبية الأصوات، بالقياس إلى الأحزاب الأخرى، وبمكانة الحزب الأول، ولكن من دون أن تحقق الغالبية المطلقة التي تمكنها من الاستئثار بالحكم، ما يضع حداً للمبالغات الزائدة في شأن شعبية الإسلام السياسي، وما يعني أن التيارات العلمانية تتمتع هي الأخرى بنفوذ وازن.
 
وتأسيساً على ذلك ثمة من يعتقد بإمكان سحب هذه النتيجة التونسية على الانتخابات المقبلة في مصر أو في ليبيا، وإمكان تمثّل وتقبّل تيارات الإسلام السياسي في البلدان العربية للديموقراطية، والتعددية، ودولة القانون والمواطنين، لأنه بناء على كل ذلك يمكن تحديد إمكان الاستقرار أو الاضطراب في أنظمة الحكم في البلدان العربية في المستقبل القريب.
 
طبعاً، وفي هذه الإطارات، لا يمكن إغفال مكانة العوامل الخارجية في كل ما يجري، لكن بالنسبة إلى الفاعلين الإقليميين، يمكن ملاحظة أن ثمة انكفاء في الدور الإسرائيلي، وهو ما جرت ترجمته في تمرير صفقة الأسرى (وإطلاق شاليت) بعد طول تعنت وتمنّع من قبل إسرائيل (طوال خمسة أعوام)، بدعوى عدم إعطاء جوائز لـ "الإرهاب"، وعدم الاعتراف بشرعية «حماس».
 
وفي غضون ذلك، أي في ظلّ تلك التغيّرات المحمولة على رياح الثورات الشعبية العربية وفي ظلّ الانكفاء الإسرائيلي، ثمة اليوم قوتان إقليميتان فاعلتان تتبادلان الأدوار في التصارع على النفوذ في منطقة المشرق العربي (إلى جانب إسرائيل)، هما تركيا وإيران. وفيما يمكن ملاحظة أن الثورات الشعبية العربية أضعفت نفوذ إيران، الذي كانت اكتسبته بصورة رئيسة من الانخراط في بعض مجالات الصراع ضد إسرائيل، فإن هذه الثورات قوّت من نفوذ تركيا التي بدت أكثر تعاطفاً مع مطالب الشعوب إن في موقفها المناهض لإسرائيل، أو في تعاطفها مع مناخات التغيير السياسي في العالم العربي، كما في تقديمها لنموذج إسلامي حداثي أو علماني ناجح، بديل عن النموذج الإسلامي الذي حاولته إيران.
 
على ذلك كله فإن المفاوضات وعملية التسوية، والمصالحة بين "فتح" و"حماس"، والتقرير بمآل منظمة التحرير وكذا السلطة في الضفة وغزة، كلها ستنتظر، إذ ليس من مصلحة إسرائيل تحريك هذه الملفات في ظل التغيرات العاصفة في المنطقة، وفي ظل عدم اليقين في شأن الترتيبات المستقبلية فيها.
 
وليس الفلسطينيون والإسرائيليون هم الذين سيبقون وحدهم في حالة انتظار، وإنما المنطقة كلها ستبقى رهينة هذه الحالة، أيضاً، بخاصة من لبنان إلى البحرين مروراً بالأردن والعراق، وحتى أن مؤتمر القمة العربي سينتظر أيضاً.
 
وبالطبع فإن الانتظار لا يعني البتّة السكون، ولا اتخاذ موقف مراقب من الأحداث، إذ من البديهي أن كل طرف من الأطراف، الإقليمية والدولية، سيحاول التدخّل بالطريقة الأكثر مناسبة له للتأثير في مجرى الأحداث، في محاولة منه لتعظيم مكانته أو تأثيره فيها، لكنه يعني بأن هذه القوى تدرك بأن الأمور خرجت من نطاق سيطرتها، وأن لا يقين في شأن ماهية التطورات الآتية.
 
معنى ذلك أن المنطقة العربية تمرّ اليوم بلحظة من عدم اليقين، وهي ناشئة عن تخلخل مكانة الأنظمة، وفواتها من الناحية التاريخية، كما أنها ناشئة عن لحظة ضعف في السيطرة الأميركية (والغربية) على العالم. وبالأخصّ فإن هذه اللحظة ناشئة عن ظهور الشعب على مسرح الأحداث وإمساكه بمصيره، وهذه لا تشبه أية لحظة تاريخية سابقة، لا لحظة تقاسم تركة "الرجل المريض" التي جاءت عقب الحرب العالمية الأولى، وكان من إفرازاتها اتفاقية "سايكس ـ بيكو" ووعد بلفور، ولا لحظة انتهاء حقبة الاستعمار الأوروبي، بعد الحرب العالمية الثانية، التي نتج منها قيام إسرائيل، وقيام الأنظمة العربية التي سادت طوال العقود الستة الماضية.
 
هذه لحظة فارقة ونادرة في التاريخ السياسي في المنطقة العربية، وفي تاريخ تطوّر المجتمعات العربية، ليس لها ما قبلها، ولكن سيكون لها ما بعدها.

التعليقات