13/06/2012 - 10:41

مصر: تناقضات الثورة والتغيير../ علي جرادات

الثورة المصرية، كأية ظاهرة سوسيولوجية، عملية تحويل معقدة للظروف والذات والناس، وهي، كأي ثورة، تتعلم من الثورات وتضيف عليها، وبكلمة واحدة إنها تجسيد حي عالي المستوى لكيفية حضور العام في الخاص، إنما ضمن شروطه ومزاياه، ما يتطلب تحليلاً ملموساً لكل طور ملموس من أطوارها، فالممارسة الاجتماعية الثورية هي أساس الفكر النظري، وما الفكر سوى تجريد نظري للقبض على الملموس وفهم خباياه وبواطنه، حيث ينتقل من القشور إلى العمق، أي إلى ما هو جوهري في علاقاته المتبادلة

مصر: تناقضات الثورة والتغيير../ علي جرادات

إن كانت الثورة التونسية بطابعها السلمي هي الموحي بما سارت على هديه بقية الثورات الشعبية العربية، رغم انحراف بعضها عن السياق، فإن الثورة المصرية هي المركز الذي ما انفك يصوغ أنموذج هذه الثورات ويبلوره بوصفه أنموذجاً له طابعه الخاص، (عدا مشتركه العام مع كل ثورة)، ذلك ترجمة لحقيقة أن التاريخ لا يعترف بالنمذجة، بل ويدحرها بسخرية. إنه أنموذج جماهير تحتشد بالملايين في ثورة سلمية، مركزها وقوتها المحركة ورمزها "ميدان التحرير"، دون قياده تنظيمية، جماهير تلمست خطوط برنامجها الأولي، وما انفكت تطوره في أتون ممارسة ثورية، بحسبان أن "الزمن الثوري المكثف يعلم الناس مئات المرات أكثر من الزمن العادي الرمادي"، جماهير أنجزت مهمات وما زال ينتظرها مهمات أكبر، لكن، ولما كانت مقاربة الثورة، أية ثورة، ليست عملاً مزاجياً وإرادوياً، بل مستقاة من تجارب التاريخ، فهي تطيح أولا بالنظام السياسي القائم وقواه الاجتماعية، وتشكل نظاماً سياسياً جديداً بقوى اجتماعيه جديدة، أي أن الثورة تهدم وتبني معاً، تطوي سياقاً وتؤسس سياقاً جديداً يلد قوى جديدة وثقافة جديدة وسياسة جديدة وإعلاماً جديداً وقيماً جديدة وأخلاقيات جديدة، إنما في إطار صراع طاحن بين قديم يتهاوى لم ينته كلياً بعد وجديد يتوالد لم يتبلور كلياً بعد، ذلك لأن الشعوب، كل الشعوب، إنما تصنع بفعلها الواعي تاريخها، لكنها قط لا تصنعه إلا في ظل شروط موضوعية خارجة عن إرادتها وفي مواجهتها.

لذا فإن ثورة 25 يناير المصرية ومنذ أجبرت رأس النظام على التنحي وتسليم إدارة الدولة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة لمرحلة انتقالية، قد دخلت (خط سيرٍ وصيرورة ونتائج)، طوراً جديداً تعتمل بداخله أربعة تناقضات متداخلة ومتشابكة ومعقدة، وهي:

1: تناقض الثورة والجيش، فالجيش المصري في التحليل الأخير هو أحد أدوات النظام المطاح رأسه، وهو، وإن ساهم في إجبار رأس النظام على التنحي حين نأى بنفسه عن إدماء الثورة، (ربما لأنها شعبية سلمية)، إلا أنه أيضا عمل على عدم امتداد لهيبها إلى بقية مؤسسات النظام، ورفض تلبية مطلب تشكيل مجلس رئاسي مدني، وظل يماطل في تلبية بقية مطالب الثورة، حيث انتهج سياسة التجاوب معها بالقطارة وتبعاً لضغط "الميدان"، ما يحيل إلى الطبيعة المركبة لهذا الجيش، الذي، وإن كان هو من صنع ثورة يوليو 1952، وخاض غمار حروب: السويس 1956، وحزيران 1967، والاستنزاف في نهاية ستينيات القرن المنصرم، والعبور في أكتوبر 1973، ورفض فكرة "توريث" السلطة، إلا أنه هو أيضاً من التزم منذ أواسط سبعينيات القرن المنصرم بعقيدة "أن حرب أكتوبر آخر الحروب"، عدا أن كبار قادته تشكلوا في الكليات العسكرية الأمريكية، وأن أغلبيته من غير المحترفين، وأن كبار قادته ليسوا طبعه واحدة، لذلك كان طبيعياً حدَّ البداهة أن تعيش مصر مدة 17 شهراً من "شد الحبال" بين ثورة تريد أن تمضي إلى الأمام في هدم النظام وبناء بديله و"مجلس عسكري" حاكم يحاول إصلاح هذا النظام لا تغييره، ولا يتجاوب مع ديناميات الثورة ومطالبها إلا بقدر ما يتعرض له من ضغط شعبي، مع رهان على عامل الوقت لإفراغ الثورة من زخمها ومضمونها.

2: تناقض الثورة والنظام، إذ صحيح أنه تمت إطاحة رأس النظام وبعض رموزه، لكن ما للنظام من مؤسسات حكومية ومحلية وثقافية وإعلامية وقاعدة اجتماعية ذات قدرات اقتصاديه هائلة تمتلكها برجوازية طفيلية بيروقراطية وكمبرادورية مرتبطة بالعولمة، ظلت قائمة ما انفكت تحاول لملمة صفوفها، فهي مع إقرارها بضرورة تقديم بعض مطالب الثورة، غير أنها لم تقبل المس بأسس النظام، ودعمت أن يبقى "المجلس العسكري" هو المقرِّر مع ممارسة الضغط عليه في مواجهة ما تمارسه عليه قوى الثورة من ضغط.

3: تناقض الثورة مع الخارجي من قوى الثورة المضادة بقيادة الولايات المتحدة التي تعلمت الدرس من ثوره تونس، ولم يعد يعنيها الرهان على حصان خاسر، وحسمت بالقول: ليذهب مبارك وبعض رموز نظامه، ولتدور عجلة الديمقراطية السياسية في مصر، وليلاحق القضاء الفاسدين بثرواتهم الخيالية،( ديون مصر الخارجية 50 مليار فيما ودائع أثريائها في البنوك الغربية أكثر من 100 مليار دولار !!)، إنما ضمن إطار احتواء الثورة واختزالها في البعد الديمقراطي السياسي، أي بما لا يتجاوزه إلى البعد القومي، أو البعد الاجتماعي، أو البعد التنموي الوطني الاستقلالي، وبما لا يمس التزام النظام باتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، أي بما يبقي مصر ملحقة بالسياسة الأمريكية، فالولايات المتحدة لا يعنيها أن يكون النظام المصري القادم ديمقراطياً أو غير ديمقراطي، بل أن يكون تابعاً، وسلوكها في ليبيا بعد العراق أعطى درساً، فحواه: لتتشكل الأحزاب ولتجري الانتخابات، إنما في إطار بقاء النظام تابعاً لنظام رأس المال الاحتكاري المعولم بقيادة الاحتكارات الأمريكية التي لا تتردد في تقديم المساعدات المالية بهدف إجهاض الأبعاد القومية والاجتماعية والتنموية الوطنية المستقلة لثورات الشعوب العربية.  

4: تناقضات الثورة ذاتها، إذ صحيح أن الثورة انطلقت شعبية وعارمة، ووحّدتها مطالب "الميدان" لمدة 18 يوماً، أي حتى إطاحة رأس النظام في 11 شباط 2011، إلا أنها كانت أيضا مكونة من تيارات فكرية وسياسية متنوعة المشارب والأهداف، (شبابية بألوانها وقومية ودينية ويسارية وليبرالية)، منها من هو جذري وطويل النفس، ومَنْ هو وسطي قصير النفس، ومنها من هو أكثر تنظيماً ومنها من لا يزال قيد التبلور التنظيمي في غمرة الممارسة الثورية، ومنها مَن أشعل الشرارات الأولى للثورة، ("الشباب")، ومنها من التحق بركبها متأخراً وبعد تردد، بل، وأضمر منذ البداية اختطاف ثمارها واستعمالها وسيلة للقفز سريعاً إلى سدة السلطة بصفقة "الانتخابات لا الدستور أولاً"، ("الإخوان" والتيار "السلفي")، ومنها مَن التحق بها بإخلاص فور اندلاعها، (أغلبية بقية القوى السياسية).

   هذه التناقضات بتداخلها خلقت تعقيدات يتعذر معها انطفاء كلي لجذوة الثورة؛ أو حسم سريع ومستقر لنتائجها النهائية؛ أو إعادة مصر إلى ما كانت عليه قبل اندلاعها؛ أو بقاء القوى السياسية المصرية على حالها، إذ ثمة قوى جديدة نشأت وأخرى قديمة صعد بعضها وخبا أو تلاشى بعضها الآخر، بينما ظل العنصر الشبابي الذي أطلق شرارة الثورة، وكل من تقاطع معه منذ البدء، الضمانة الأولى والأكثر صلابة للثورة، بل والمعبِّر، تقدم الأمر أو تأخر، عن مستقبلها، حتى، وإن تراءى أن القوى والتراكيب والأطروحات والرموز الشائخة، ( داخل النظام أو داخل قوى المعارضة)، قادرة على إعادة العجلة إلى الوراء، ذلك أن العنصر الشبابي ظل قادراً على الحشد، بصفته الحلقة المركزية الناظمة لحلقات السلسلة والعمود الفقري لجسم الثورة، ما يجعله مجبراً على إنتاج قيادته الموجهة، اللهم إلا إذا كان بلا معنى أن تأتي نتائج المحطة الأولى من الانتخابات الرئاسية مغايرة بصورة نوعية لنتائج محطة الانتخابات التشريعية رغم قِصَرِ المدة الزمنية الفاصلة بين هاتين المحطتين، وذلك من حيث:

*تراجُع نسبة ما حصل عليه مرشَّحُ "الإخوان" الذي حصل على نصف ما حصدوه في الانتخابات التشريعية.

*والنسبة المفاجئة والمبهرة بكل المعاني والمقاييس التي حصل عليها المرشح المستقل القومي الناصري اليساري المتجدد، حمدين صباحي، المدعوم من "الشباب"، ذلك رغم افتقاده عملياً لـ"ماكنات" المال والتنظيم والإعلام والدعم الخارجي متعدد الألوان والمصادر.

   قصارى القول: الثورة المصرية، كأية ظاهرة سوسيولوجية، عملية تحويل معقدة للظروف والذات والناس، وهي، كأي ثورة، تتعلم من الثورات وتضيف عليها، وبكلمة واحدة إنها تجسيد حي عالي المستوى لكيفية حضور العام في الخاص، إنما ضمن شروطه ومزاياه، ما يتطلب تحليلاً ملموساً لكل طور ملموس من أطوارها، فالممارسة الاجتماعية الثورية هي أساس الفكر النظري، وما الفكر سوى تجريد نظري للقبض على الملموس وفهم خباياه وبواطنه، حيث ينتقل من القشور إلى العمق، أي إلى ما هو جوهري في علاقاته المتبادلة.
 

التعليقات