15/06/2013 - 10:43

لماذا يجب أن نقرأ في التاريخ../ ظافر الخطيب

الأزمة السورية إذن هي مرحلة الذورة، المخاض الذي يعيشه النظام العالمي من أجل الإعلان عن نهاية مرحلة العولمة المتحوشة في صورتها الأخيرة (الحروب والغزوات) وبداية مرحلة جديدة أكثر استقراراً أقله في المدى المنظور، مرحلة يتم فيها توزيع الأرباح والمكتسبات بين القوى العظمى مع اعتراف بدول القوى الإقليمية العظمى، وهو ما يؤدي بالنتيجة إلى قيام عالم متعدد الأقطاب

لماذا يجب أن نقرأ في التاريخ../ ظافر الخطيب

عندما مال حراك بعض العرب منحى التأزم، بين روحية الثورة ومجريات الواقع، وبدا أن ثمة صفقة ما تلوح في الأفق، ترسم مساراً جديدا للثورة بما يمنعها من استكمال مهماتها، وبموازاة الأحداث في ليبيا وبداية الأزمة السورية، استخدم المؤرخ المصري محمد حسنين هيكل تعبيرا ذا دلالة كبيرة في التاريخ العربي"سايكس-بيكو"، انكفأ هيكل وعاد إلى ممارسة حرفة التبحر في الوثائق التاريخية، لكن مسار الأحداث استمر في انحداره حد الانهيار الكامل، في القيم والأفكار، كما في المبتدأ والخبر والخاتمة.

إذن فإن العودة إلى التاريخ واجبة وموجبة، لا الاستغراق في استعراض التوازنات القائمة والتحركات العسكرية، وما يرافقها من الاستخدام المفرط للنزعات العاطفية وردود الأفعال السلبية ومفردات السب واستثارة الأحقاد التاريخية، التي لا تقدم بل تشوه تطور الأوضاع القائمة باتجاه ماهية نهائية، كحقيقة موضوعية سواء أرضى ذلك غرائزنا أم لا، فالحقيقة الموضوعية أقوى من أي اعتراض أو رفض.

يمكن اعتبار الأزمة السورية بكل تمظهراتها ونتائجها تعبيراً جزئياً من تعبيرات الأزمة العالمية المتجهة إما إلى تسوية تاريخية أو إلى مأزق تاريخي يؤدي حكماً إلى تمظهر استثنائي، حين تصدم كل التناقضات اصطداماً دراماتيكيا ثم إلى تسوية، فالاحتمالات القائمة هي ضمن اثنين، تسوية تاريخية أو أزمة متحولة إلى مازق، ثم تسوية تاريخية، بذلك نكون أمام عملية تاريخية تؤدي إلى منعطف تاريخي بدأت ملامحها تتضح مع فشل نموذج العولمة المتوحشة، والذي عبر عنه فشل تجربتي العراق وأفغانستان ثم في الأزمة الاقتصادية.

عندما تصل الأزمة إلى الذروة –المأزق لا ينتهي التاريخ، فالتاريخ إلى الأمام، بل يتطور إلى مرحلة جديدة في التاريخ العالمي، مرحلة تولد في رحم المرحلة السابقة، فهل تكون الأزمة السورية هي المخاض المتطور الناتج عنه لاحقاً هي المرحلة المؤدية إلى مأزق ثم الى تسويات تاريخية؟

يمكن استعادة أمثلة من التاريخ، لا زالت شواهدها حاضرة حتى اللحظة، وحتى لا نبتعد كثيراً يمكن التركيز على الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحرب الخليج الثانية، للدلالة على جدية الفكرة (المنعطف التاريخي، والتسويات التاريخية).

قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، كان النظام السياسي الرأسمالي بنزعته الاستعمارية، قد وصل حد المأزق، تراكم البضائع والركود، الحاجة إلى موارد أولية للصناعات الآلية المتطورة، الحاجة إلى أسواق جديدة، حتم ضرورة تعديل مناطق السيطرة والنفوذ بين القوى العظمى القديمة والمستجدة وجاءت الحرب، المنعطف الذي أعلن عن نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة.

صحيح أنها أنتجت مرحلة جديدة، سمتها الأساسية انكفاء ونهاية إمبراطوريات، وظهور مراكز قوة جديدة، على حساب أفول نجم قوى أخرى، إضافة إلى تشكل عصبة الأمم كتنظيم عالمي يهتم بترسيح السلام وتنظيم العلاقات بين الدول، غير أنها أدت بدورها إلى إنتاج عوامل وأسباب الحرب العالمية الثانية، وظهور نظام عالمي جديد يرتهن إلى توازن القوة والنفوذ بين الغرب والولايات المتحدة من جهة والاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية من ناحية ثانية.

المنعطف الثالث يتمثل في حرب الخليج الثانية ضد العراق، التي جاءت كتتويج لمرحلة تمتد منذ مرحلة نهاية الحرب العالمية الثانية، مرورا بالحرب الباردة وتواون الرعب، حروب الاستقلال وحركات لتحرر، حرب فلسطين ونشوء القضية الفلسطينية، وغيرها من الأحداث التاريخية وصولاً إلى انهيار الاتحاد السوفياتي وبروز النموذج الرأسمالي الأمريكي والولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى كادت تمسك بزمام الأمر في النظام العالمي، ضمن ما أطلق عليه تسمية العولمة، حيث السيادة فيه للكارتيلات العابرة فوق الحدود والممتدة عبر شبكات مصالحها على مستوى العالم أجمع.

فهل يشهد التاريخ العالمي مع أحداث الأزمة السورية المتحولة إلى (ذروة) نهاية هذه المرحلة؟

أكدت الأزمة الاقتصادية العالمية ـمأزق النموذج الليبرالي، وبروز قوة الصين الواعدة، وعودة الروح السلافية للتفاعل مع الإرث التارخي الروسي الممتد عبر مئات السنوات منذ عهد بطرس الأول، استمرار القضية الفلسطينية وتحول المقاومة إلى عامل إقليمي مؤثر، حركة الاستقطاب الديني والمذهبي المتطرف وغيرها من الأزمات، على أن المرحلة الثالثة وصلت إلى الطريق المسدود -المأزق، فلا التنمية تحققت ولا الرفاهية عمت، لا الحروب انتهت ولا السلام ساد، يضاف إلى ذلك الأزمات القادمة مع انعدام التوازن بين النمو الديمغرافي والموارد الغذائية، المياه والتصحر والحاجة المتنامية للطاقة... الخ.

هناك مأزق وهناك حاجة متنامية لتسوية، وهو ما باتت الأطراف كلها تدركه، لكنها تدرك أيضاً أن الأزمة معقدة، مركبة، وعميقة بحيث أنها كادت أو تكاد تصبح كونية إن كان من حيث التورط المباشر وغير مباشر، او من حيث المؤثرات والنتائج.

فهناك توازنات القوة والمصالح بين الدول الأقطاب على المستوى الدولي والإقليمي، وهناك القضية الفلسطينية والصراع القائم في المنطقة، النفط والطاقة والطاقة البديلة، الغذاء والمياه، التنظيم الدولي والحاجة لتطويره، السلاح النووي وانتشاره، التصعب الديني والمذهبي.

في كل المنعطفات التاريخية كان التاريخ أمام تغيير في توازنات القوة والمصالح، انكفاء وتراجع دول وتقدم أخرى، فما هو شكل التسوية التاريخي؟ة وهل آن أوانها أم أنها تحتاج إلى المزيد حتى تنضج ظروفها، هذا يعني أن الأزمة السورية ليست في طور الحل بل هي في مرحلة التطور.

من الواضح أن المطلوب هو تنظيم تراجع الولايات المتحدة أو تهذيبه بحيث لا تبدو كأنها هزيمة لها، وهو ما سيترك آثاره على الاقتصاد العالمي، لكن المطلوب أكثر من الدوائر الرسمية هو تحديد التقدم الصيني أو التحكم به، مع تقنين الطموحات الروسية، والإقليمية.

هناك عقبات و استعصاءات، العقبات تحتاج إلى تكتيكات تؤدي إلى إضعاف أصحابها، واستعصاءات قد تجري إحالتها إلى المرحلة التاريخية الجديدة، الطموحات الحقيقية للصين والاعتراف بعودة روسيا كما تطمح، أصحاب الرؤوس الحامية المعرقلة للتسوية التاريخية (المؤثر الإقليمي) تحتاج إلى إضعاف من خلال عقلنة طموحاتها وتحديد مكاسبها، القضية الفلسطينية صيروراتها، في حين تبرز الحالة المذهبية (شيعة،سنة) والتعصب الديني العام، كاستعصاء.

الأزمة السورية إذن هي مرحلة الذورة، المخاض الذي يعيشه النظام العالمي من أجل الإعلان عن نهاية مرحلة العولمة المتحوشة في صورتها الأخيرة (الحروب والغزوات) وبداية مرحلة جديدة أكثر استقراراً أقله في المدى المنظور، مرحلة يتم فيها توزيع الأرباح والمكتسبات بين القوى العظمى مع اعتراف بدول القوى الإقليمية العظمى، وهو ما يؤدي بالنتيجة إلى قيام عالم متعدد الأقطاب.

ما تقدم لا يشي أبداً بأن النظام العالمي الجديد سيبدو أكثر عدالة، بما يحقق العدالة والإنصاف في توزيع عادل للثروات واستخدام أقل للعنف، ونهاية الظلم، خاصة على ضوء تراجع القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغير، وربما كان في فقه الانعطافات التاريخية، عبرةً يجب استخلاصها، تمثل ثابتة حقيقية، في أن الخاسر الأكبر في ذلك غالباً أو دائما ما يتمثل في الضعيف، وعليه يبرز العرب عامة في صورة الحلقة الأضعف.
 

التعليقات