26/06/2013 - 14:41

إرحموا ما بقي من سورية وأهلها../ هشام حمدان

أخي فيصل، أكتب الآن، وأنتم في موقع المسؤولية. أنا لست خائفاً من أحد ولست محسوباً على أحد. ولم أقبض قرشاً من أحد. إنها صرخة من إنسان لبناني عربي يحب سوريا ويحب بلاده

إرحموا ما بقي من سورية وأهلها../ هشام حمدان

سعادة السفير،
تحية أخوية وبعد،

لعلك تذكر أول لقاء لنا. كان ذلك في أوائل العام 1995. دخلت يومها إلى اجتماع اللجنة مفتوحة العضوية للجمعية العامة للأمم المتحدة التي كانت تبحث في إعلان الذكرى الخمسين لإنشاء المنظمة الدولية. كان يرأس اللجنة السفير ريتشارد بتلر، المندوب الدائم لأوستراليا في الأمم المتحدة (نعم هو نفسه ممثل الأمم المتحدة لاحقاً في ملف العقوبات ضد العراق الذي لم يسمح لأي شركة عربية بالتصدير إلى ذلك البلد الا بموافقة من الولايات المتحدة). يومها ابتدأت اللجنة ببحث الفقرة المتعلقة بالإرهاب. رفعت يدي مبدياً معارضة لبنان للفقرة، لأنها لا تشير إلى مبدأ أساسي في القانون الدولي وشرعة الأمم المتحدة يؤكد حق الشعوب بمقاومة الاحتلال الأجنبي لأراضي وطنه، ومطالباً بتعريف قانوني دولي للإرهاب.

كان واضحاً لي تماماً أن الفقرة تسعى إلى جعل مقاومة المقاومين اللبنانيين ضد الاحتلال الإسرائيلي التي كانت في أوجها في حينه، أعمالاً إرهابية. وقد رد السفير بتلر قائلاً، إن تلك الفقرة مقتبسة عن الفقرة التي تم تبنيها في الدورة التي انتهت لتوها في كانون الأول عام 1994، ضد الإرهاب. فأجبته إن إعلانات الأمم المتحدة هي مجرد توصيات، وتتم عادة في أجواء من عدم الجدية. أما الإعلان الذي كنا بصدده فهو تفسير لمبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والحجر الأساس المتوقع للنظام الدولي الجديد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. وقلت، أنا لا أستطيع أن أقول لرئيس لبنان أن يوقع على اتفاق لا ينص صراحة على هذا المبدأ البديهي ولا يقدم تعريفاً للإرهاب. قاطعني السفير بتلر وقال: "لكن سوريا وافقت على هذه الفقرة في الجمعية العامة". ضربت بيدي على الطاولة وصرخت: "سيد بتلر هنا مندوب لبنان يتحدث معك". هنا رفعت أنت يدك وقلت للسيد بتلر: "في حينه كانت سوريا مع القرار، أما الآن فنحن مع ما يقوله مندوب لبنان". كم كان هذا الموقف نبيلاً! منذ ذلك الحين نشأت علاقة تعاون ودية بيننا، استمرت حتى نهاية عملي في الأمم المتحدة أواخر العام 1999.

نجحنا نحن وأنتم وإيران وباكستان ودول معدودة في فرض هذا المبدأ في الإعلان المذكور. وانسحب الأمر على ما تم لاحقاً من مناقشات بشأن الاتفاقيات الدولية لمحاربة الإرهاب. ولعل هذا الأمر منع المعنيين من اللاعبين الكبار، بإضافة الإرهاب إلى الجرائم التي تقع في صلاحية المحكمة الجنائية الدولية. وقد كان لتعاوني مع مندوبكم في أعمال المحكمة الجنائية، أوقع الأثر، لمنع تمرير فقرة كانت تعتبر إشراك الأولاد دون الثامنة عشرة في أي من الأعمال القتالية بمثابة جريمة حرب. يومها وبعد اجتماع لي في روما مع مندوبي الدول ذات التفكير المشترك (48 دولة) تم الاتفاق على اقتصار الفقرة على إشراك الأولاد دون هذا السن في القوى النظامية فقط، كي يعتبر الفعل جريمة حرب. وخرجت الصحيفة اليومية للمنظمات غير الحكومية التي كانت تلاحق المؤتمرين، بعنوان: "المجتمع الدولي يخضع لشروط حزب الله". ضحكت كثيراً في حينه لأنه لم أكن أعمل لا من أجل "حزب الله" ولا حتى أطفال الحجارة الذين اعتبرنا كمجموعة عربية أنهم معنيون بتلك الفقرة. ضحكت أكثر ليس لأني لم أعرف أحداً في حينه "وما زلت لا أعرف أحداً حتى تاريخه" في "حزب الله"، بل لأني مكثت خمس سنوات أمثل لبنان في أعمال الإعداد للمحكمة من دون أي تعليق أو أية تعليمات عملية من حكومتي. قدت وحدي المفاوضات نيابة عن لبنان بما أملاه ضميري الوطني ومصلحة وطني لا غير. كوفئت أنا بإبعادي عن الأمم المتحدة ونقلت قنصلاً عاماً إلى ملبورن، علماً أن صحيفة "السفير" كانت قبل يوم فقط من إعلان التشكيلات، أنه سيتم تعييني قنصلاً عاماً في نيويورك بحيث أظل قريباً من الأمم المتحدة. لكن إرادة أحد الزعماء بمنح المركز لأحد أبناء طائفته أوصلني إلى ملبورن.

أما أنت أخي د. فيصل، فكافأتك حكومتك لاحقاً بتعيينك مندوباً دائماً لسوريا في الأمم المتحدة. ومن المضحك المبكي، أن أعرف لاحقاً، أن حكومة بلادي تبلغت "انزعاج الولايات المتحدة من مواقفي"، فأقنعوا الوطني الكبير الرئيس الدكتور سليم الحص، الذي كان وزيراً للخارجية في حينه، أن لا حاجة لسفري إلى نيويورك لمتابعة الجلسة الأخيرة للجنة التحضيرية للمحكمة الدولية بحجة توفير 14 ألف دولار أميركي كانت ستكلف الخزينة، مقابل سفري واشتراكي ثلاثة أسابيع في أعمالها (...).

أخي فيصل، أنا لا أشير إلى هذه الأمور من باب الدعاية، بل لتوضيح عمق الثقة التي أولتني إياها سوريا في حينه. أنت والسفير الدكتور ميخائيل وهبه، مندوبكم الدائم في حينه لدى الأمم المتحدة، شاهدين أني لم أطلب يوماً شيئاً شخصياً، ولم أتردد على بعثتكم، بل لم أزرها طوال خمس سنوات من عملي هناك، أكثر من ثلاث مرات في مناسبات رسمية. بل إني لم أزر سوريا من العام 1975 حتى الآن سوى مرة العام 1988 في اجتماع للمنظمة العالمية للملكية الفكرية. لقد جمعتنا فقط مواقف مبدئية في إطار الصراع "القومي" ضد الاحتلال الإسرائيلي لأراضي بلدينا. ولذلك لا يمكن لأحد ممن سيقرأ رسالتي إليكم ان يتهمني بأني "حليف إسرائيل والشيطان الأكبر" (...).

أخي فيصل ما سأقوله هو من موقع القول الذي يقول "صديقك من صدقك وليس من صدّقك". أخطأتم أخي فيصل وما زلتم تخطئون. أخطأتم يوم خرجتم من جلدتكم العربية بعد انسحاب إسرائيل من لبنان في العام 2000 وانضمامكم إلى إيران، ولو تحت حجة نبيلة هي المقاومة. (...) لقد نجح أعداء الأمة باستغلال هذا الخطأ التاريخي بتحويل الصراع العربي الإسرائيلي من صراع قومي وحقوقي وقانوني إلى صراع لمجموعات دينية في الشرق الأوسط. وسمحتم، بغفلة من التاريخ، أن يحقق هؤلاء الأعداء ما كانوا يتطلعون إليه دائماً من بناء شرق أوسط جديد مبني على تكتلات دينية. وهذه التكتلات ستبرر لإسرائيل وجودها كدولة يهودية.

لقد كتب ديبلوماسي فرنسي قبل أيام، أنه لو وقف الشعب اليهودي 200 سنة يصلي عند حائط المبكى ليحصل بسوريا ما يحصل اليوم، لما تحقق ذلك. كفى مكابرة، وارحموا ما تبقى من سوريا وشعبها وأعيدوا عقارب الساعة إلى الوراء قبل أن يفوت الأوان.

أخي فيصل،
اليوم. تدمع عيني خجلاً وألماً وأنا أتخايل ضحكات الاستهزاء على ثغر العدو الصهيوني. وأتألم أكثر وأنا أقرأ أسماء الشباب الأبطال من المقاومين الذين حققوا عام 2000 أجمل انتصار في التاريخ الحديث للشعوب العربية وأعادوا التوازن إلى الصراع العربي الإسرائيلي. هؤلاء الشباب الذين يموتون اليوم على مذابح هذه الحرب المجنونة الخاسرة التي تذكي الأحقاد الطائفية، وتساهم في تدمير قلب العروبة النابض، وتعمق مشروع الشرق الأوسط الطائفي الجديد وتدفع للخسارة العربية وتكرّس إسرائيل في هذا الشرق العربي.

أتألم أني لم أستطع أن أخرج للاحتفال بهذا اليوم. تراني ما أقول لأبناء شعبنا في المغترب وهو يرى يومياً المذابح الوحشية والقصف الأعمى وكل أشكال التدمير المنهجي الذاتي المستمر؟ أنت تعلم أخي فيصل كرجل قانون وديبلوماسي محنك ورجل فكر، أننا كنا أقوياء كثيراً قبل العام 2000، لأننا كنا نقاتل عدواً على أرضنا. فالمجتمع الدولي لم يكن قادراً على اتهام مقاومتنا بالإرهاب، لأنها حق مشروع في القانون الدولي، لا سيما أنها كانت على الأراضي الوطنية وليس في عمق إسرائيل. وحتى عندما حاولت إسرائيل ان تتذاكى فتجر المقاومة إلى عمليات في داخلها، فشلت وتم توقيع اتفاق نيسان الشهير (1996) الذي اضطرت الولايات المتحدة وإسرائيل أن تعترفا فيه بحقنا بالمقاومة، وضمتها إلى لجنة مشتركة كانت تلتئم في الناقورة. ما أجمل تلك الأيام على ضراوتها!

كم كنا نفرح مع كل عملية ناجحة للمقاومة، وكم كنا نشعر بالاعتزاز والفخر! أنت تذكر أخي فيصل، أني والسفير سمير مبارك، اللذين كنا نفاوض الغرب على قرار بشأن الاعتداء الإسرائيلي ذلك العام، الذي أدّى إلى تدمير مقر الأمم المتحدة في قانا وقتل عشرات المدنيين اللاجئين فيه، نجحنا في استصدار قرار يدين إسرائيل، ويفرض عليها تعويض الأمم المتحدة لما ألحقته من خسائر بها. ولعلك والزميل السفير الدكتور ميخائيل وهبه تذكران ما قمنا به في مواجهة السيدة مادلين أولبرايت في مجلس الأمن، رافضين إصدار قرار واه ضعيف لا يدين إسرائيل، وكيف سعينا إلى عقد دورة للجمعية العامة ونجحنا في حينه. هذه الدورة التي تتكرر اليوم تحت عنوان "الاتحاد من أجل السلام" لإدانتكم أنتم. وقد كنتم أول الناس الذين صفقوا لي حين تنبهت في العام 1999 إلى المنزلق الذي كان يدفع إليه لبنان للجلوس مجدداً إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل لبحث انسحابها من لبنان بحجة أن القرار 425 يندرج تحت الفصل السادس من الميثاق. وقد واجهت الأمين العام للأمم المتحدة وبعض أصحاب الرأي من ديبلوماسيين لبنانيين وسياسيين وكتّاب، مؤكداً أن القرار يندرج تحت المادة 40 من الفصل السابع من الميثاق، وأن على إسرائيل أن تنسحب كما دخلت. واستطعت أن أربح لأني استندت إلى القانون الدولي وفقهاء الغرب أنفسهم، ومنهم القاضية البريطانية في المحكمة الدولية روزالين هيغنز. لقد كتبت خمسة كتب في هذه المواضيع والمناقشات التي جرت في الأمم المتحدة مع وخلال وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وأعلم تماماً أننا قبل عام 2000 كنا أقوياء وبعده أصبحنا في مقلب آخر.

إني لا أفهم كيف أن قانوني وديبلوماسي محنك مثلك لم يفهم هذا التبدل في الأرضية القانونية. وكيف لم تنصح الرئيس الأسد في حينه بضرورة إعادة النظر في مسألة المقاومة. أنت تدرك ان الأمم المتحدة أقرت بأن إسرائيل نفذت موجبها وفقاً للقرار 425، فما هو السند القانوني الذي كنت تعتمد عليه لدعم استمرار عمليات المقاومة؟ في حينه أنا كنت من الذين جادلوا في القاعدة القانونية للضغط على الأمم المتحدة لإنهاء احتلال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. وكي لا تصفني أني من أتباع الوزير وليد جنبلاط أقول لك أني عارضته عندما قال إن تلك الأراضي أراض سورية. وكتبت حينها ان ادّعاء الأمم المتحدة بأن تلك الأراضي تندرج في إطار القرار 242 غير صحيح لأن القرار 425 لاحق للقرار 242 ويشكل بالتالي تعديلاً له (...).

هذا هو التفسير الوحيد لرفضكم المساهمة في نزع الحجج من إسرائيل ومن معها وإنهاء محنة لبنان. لماذا رفضتم (تحديد الحدود)؟ لست هنا لأدخل في التكهنات بل وبكل بساطة لأقول أنه لم يكن لموقفكم أي مبرر حقيقي في القانون الدولي فأنتم تجتمعون مع الإسرائيليين في إطار تنفيذ اتفاق فصل القوات لعام 1974. ولم يكن معيباً إذاً إرسال خبراء تحت راية الأمم المتحدة لتحديد الحدود مع لبنان في حينه. إن التلكؤ في القيام بهذا الواجب القومي أدى إلى حرب العام 2006. ولعلني أول من يرمي على أكتافكم وزر هذه الحرب التي دمرت لبنان وفرضت، تحت عبء الدمار والموت، القرار 1701 الذي أنهى واقعياً أعمال المقاومة في لبنان.

أخي فيصل قل لي إلى أين تسيرون؟ هل تريدنا فعلاً أن نصدق أنكم تقاتلون دفاعاً عن الممانعة والمقاومة؟ أنتم التزمتم تماماً باتفاقية العام 1974 ولم تسمحوا بأي عمل من أراضيكم يعزز ممانعتكم، فكيف ستقنع اللبناني إذاً بهذه الحجة؟ ثم ألم تعلن سوريا انها تلتزم موقفاً إستراتيجياً عنوانه السلام مع إسرائيل؟ ألم توافقوا على خطة السلام العربية التي أعدها الملك فهد في مؤتمر القمة العربي في بيروت عام 2002؟ ألم تذهبوا للحوار مع إسرائيل في الولايات المتحدة، وتحدثتم بعد مقتل رابين عن ما سمي وديعة رابين عند الأميركيين؟ ألم تعلنوا عن مساعي تقوم بها تركيا للتوسط بينكم وبين إسرائيل لإقرار خطة سلام؟ أني أسألك أن تقول لي بكل صدق هل ستسمحون لشعبكم بالقيام بأعمال المقاومة ضد إسرائيل إذا ربحتم الحرب؟ أنت تعلم انه لم يعد من مجال للمقاومة من جنوب لبنان بعد القرار 1701 كما أشرت آنفاً، فهل ستسمحون لـ"حزب الله" بالمشاركة في المقاومة في الجولان كما يفعل اليوم في القصير؟ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا تعلنون اليوم بطلان اتفاقية عام 1974؟

أخي فيصل، أكتب الآن، وأنتم في موقع المسؤولية. أنا لست خائفاً من أحد ولست محسوباً على أحد. ولم أقبض قرشاً من أحد. إنها صرخة من إنسان لبناني عربي يحب سوريا ويحب بلاده.

مقتطفات من رسالة طويلة
"السفير"
 

التعليقات