18/12/2013 - 16:09

خطة كيري: المخاطر والرد السياسي المطلوب../ علي جرادات

وباختصار: مخاطر خطة كيري الأمنية على القضية الفلسطينية إستراتيجية والرد السياسي عليها يجب أن يكون إستراتيجياً عبر نقل ملف الصراع إلى هيئة الأمم وإنهاء احتكار الولايات المتحدة له

خطة كيري: المخاطر والرد السياسي المطلوب../ علي جرادات

بعد انقضاء أربعة أشهر ونصف الشهر على استئنافها، (أي نصف المدة المحددة لها)، لم تفضِ المفاوضات مع حكومة نتنياهو إلى نتيجة سوى تصعيد الضغط الأمريكي على الفلسطينيين لمواصلة  التفاوض في ظل تصاعد إجراءات المصادرة والاستيطان والتهويد، وتشبث نتنياهو بشرط الاعتراف بإسرائيل "دولة للشعب اليهودي على أرضه التاريخية"، وكأن هذه الأرض ليست أرض الشعب الفلسطيني الذي ما انفك يقاوم لاستردادها والعودة إليها، ويرفض الإقرار بمعادلة: "السلام ممكن بتوفير الأمن للإسرائيليين والاقتصاد للفلسطينيين"، كما يتصور ليبرمان المعبِّر بفظاظة عما يريده نتنياهو وأركان حكومته.

هنا، لم تضغط إدارة أوباما على حكومة نتنياهو لوقف تماديها سياسياً وميدانياً أو تخفيفه على الأقل، بل على قيادة منظمة التحرير لإجبارها على قبول خطة كيري الأمنية بذريعة تيسير موافقة إسرائيل على قيام دولة فلسطينية "منزوعة السلاح"، بينما الهدف الحقيقي تحميل "الحكم الإداري الذاتي" القائم اسم دولة منزوعة السيادة والاستقلال والعاصمة، وتمزقها بحيلة "تبادل الأراضي" الكتل الاستيطانية الثلاث الكبرى، ويسيطر الجيش الإسرائيلي- بذريعة الأمن- على معابرها وحدودها وأجوائها ومياهها، وتكبلها التزامات سياسية وأمنية واقتصادية تغلق الباب على حق العودة وتشطبه -عملياً- بحيلة تجديد إرجاء البحث فيه، بل وتقوم في الضفة وتستثني غزة إلى حين غير محدد كما اقترح صراحة وعلناً الرئيس الأمريكي أوباما.

إذاً نحن أمام خطة سياسية إستراتيجية إسرائيلية، بل صهيونية، تقترحها بمسمى أمني الإدارة الأمريكية لإبرام اتفاق إطار انتقالي يعيد إنتاج اتفاق أوسلو بمسمى "الدولة ذات الحدود المؤقتة". ولا عجب. فخطة إدارة أوباما الأمنية نتيجة لمقدمات ووقائع سياسية وميدانية فرضتها حكومات إسرائيل المتعاقبة، وزادت وتائرها خلال عشرين عاماً من المفاوضات، وتريد حكومة نتنياهو اليوم -بدعم أمريكي-  تفصيل الحقوق والأهداف الوطنية الفلسطينية على مقاسها. إذ بحسب اتفاق "أوسلو" في أيلول 1993، كان يُفترض التوصل في مدة أقصاها خمس سنوات إلى "حل نهائي" للقضايا المرجأة: اللاجئين والقدس والمستوطنات والحدود والمياه والأسرى، أي جوهر الصراع. لكن العمر الزمني للاتفاق انتهى في أيار 1999 ليس من دون التوصل إلى الحل المنشود في المدة المحددة، فحسب، إنما من دون إجراء مفاوضات جدية حول قضاياه، أيضاً، بل حتى من دون تنفيذ إسرائيل لكل التزاماتها تجاه "المرحلة الانتقالية"، ومن دون التوقف عن إجراءات مصادرة الأرض واستيطانها وتهويدها.

هنا تبين أن من أبرم اتفاق أوسلو باسم إسرائيل لم يشأ التوصل إلى تسوية سياسية للصراع تلبي الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية كما تقرها قرارات الشرعية الدولية، بل أراد تحويل ما أعطاه في "الحل الانتقالي" مع تعديلات طفيفة لا تمس الجوهر إلى "حل نهائي". فقد كان ذا دلالة كبيرة على هذا الصعيد ما قاله اسحق رابين بعيد التوقيع على الاتفاق، سواء لناحية التأكيد على أن "لا مواعيد مقدسة"، أو لناحية التمييز بين المستوطنات السياسية والمستوطنات الأمنية، أو لناحية تكريس معادلة: "نواصل الدفاع عن أمن إسرائيل ومواطنيها وكأن الاتفاق غير قائم". أما في محطة "مفاوضات كامب ديفيد" في تموز 2000 حول "قضايا الوضع النهائي"، فقد اتضحت كامل نوايا خطة قيادة حزب العمل من وراء تقسيم "اتفاق أوسلو" إلى مرحلتين: "انتقالية" و"نهائية". ففي تلك المحطة الحاسمة من المفاوضات لم  يرفض باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك التزحزح قيد أنملة تجاه جوهر الصراع، حق عودة اللاجئين إلى ديارهم الأصلية، فحسب، ولم يحول الصراع على القدس بكل حساسيته ومحوريته إلى مجرد صراع على "زواريب"، فحسب، بل طالب أيضاً ببقاء الكتل الاستيطانية الثلاث الكبرى في الضفة، وببقاء الجيش الإسرائيلي على الحدود والمعابر مع الأردن، بل ورفض تسليمها لقوات دولية كحل وسط اقترحه بتسرع مجاني الوفد الفلسطيني بينما اتخذه الوفد الإسرائيلي نافذة تراجعٍ تنطلق منها، وتبني عليها، وتعمل على توسيعها، وفود المفاوضات الإسرائيلية اللاحقة. وهو ما يطالب به وفد حكومة نتنياهو للمفاوضات هذه الأيام بدعم أمريكي صريح وسافر عكسته خطة كيري الأمنية.

مما تقدم يتضح أنه لئن كان "مشروع آلون" الذي أرسى في العام 1967 خطة التمزيق السياسي والميداني الطولي لأراضي الضفة، هو مرجعية قيادة حزب العمل ومحركها لإبرام اتفاق "أوسلو" وقبول التفاوض، ونشوء "سلطة فلسطينية انتقالية"، على أساسه، فإن "مشروع دبلس" الذي أرسى في العام 1977 خطة التمزيق السياسي والميداني العرْضي لأراضي الضفة، هو مرجعية قيادة حزب الليكود ومحركها لمواصلة التفاوض الشكلي على أساس اتفاق أوسلو الذي رفضته ولم تقبل به أصلاً.

إذاً نحن اليوم أمام خطة سياسية صهيونية تستهدف -بدعم أمريكي- تفصيل الحقوق الوطنية الفلسطينية، ومنها الدولة حدوداً واستقلالا وسيادة وعاصمة، على مقاس ما حققه على الأرض  مشروعا آلون" و"دبلس". وإلا لكان بلا معنى إقدام شارون في العام 2002 على إعادة الاحتلال المباشر للضفة من دون الإنهاء الرسمي لـ"السلطة الفلسطينية"، وعلى فك الارتباط العسكري والاستيطاني من طرف واحد مع غزة، وعلى وضع "خطة الانطواء" من طرف واحد في الضفة. بل ولكانت بلا معنى مطالبة حكومة أولمرت-ليفني في مؤتمر أنابولس نهاية العام 2007 الاعتراف بإسرائيل غير محددة الحدود "دولة للشعب اليهودي". ولكان بلا معنى تمادي حكومتي نتنياهو-ليبرمان الأولى والثانية إلى درجة تصور أن "السلام ممكن بتوفير الأمن للإسرائيليين والاقتصاد للفلسطينيين".

أما تطابق خطة كيري الأمنية مع خطة حكومة نتنياهو-ليبرمان لـ"الحل النهائي"، فأمر غير مفاجئ، بل امتداد لمعادلة ظلم تاريخي أتاح إعطاء أرض فلسطين لمن لا يستحق بيد من لا يملك الحق. المعادلة التي ما انفك الشعب الفلسطيني يتعرض لها ويقاومها منذ بداية القرن الماضي. فمذاك ودول الاستعمار الغربي تستغل كل تفوق لها في ميزان القوى الدولي لتحويل أسطورة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" إلى حقائق سياسية، ذلك بدءاً بـ"وعد بلفور" القاضي بـ"إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين" وتضمينه في صك الانتداب عليها بعد الحرب العالمية الأولى، مروراً بقرار تقسيم فلسطين واعتراف هيئة الأمم  بدولة إسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية، تعريجاً على دعم احتلال إسرائيل لما تبقى من أرض فلسطين، عدا سيناء والجولان، وصولاً إلى السكوت عن ضم القدس ومصادرة أرض الضفة واستيطانها وتهويدها، خاصة بعد أن كسبت الولايات المتحدة الحرب الباردة، وصارت قطباً منفرداً في السياسة الدولية ونظامها وقرارات مؤسساتها.

لذلك فإن لا عجب في أن تستغل الولايات المتحدة، الراعية للمفاوضات، التحولات العاصفة، بل التاريخية، الجارية في الوطن العربي، وفي المنطقة عموماً، لانتزاع اعتراف رسمي فلسطيني بإسرائيل غير محددة الحدود "دولة للشعب اليهودي على أرضه التاريخية". ما يعني أن وعود إدارة أوباما بإقامة دولة فلسطينية إن هي إلا محض خداع لتجديد رهانات كذبتها تجربة عقدين ويزيد من المفاوضات، وجاءت خطة كيري لتؤكد قصور كل إدارة للصراع لا تضع الوحدة الوطنية والدفاع عن الأرض وتعزيز صمود ومقاومة أهلها في صلب برنامجها. وهو ما لا يكون جدياً وشاملاً إلا باستعادة الوحدة الوطنية ووقف التفاوض في ظل الاستيطان وخارج رعاية هيئة الأمم ومرجعية قراراتها. فمفاعيل الانقسام الداخلي الفلسطيني، وانشغال مراكز القوة العربية بهمومها الداخلية، والتمسك برعاية الولايات المتحدة للمفاوضات، هي ما يشجع حكومة نتنياهو على التمادي سياسياً وميدانياً، ويشجع إدارة أوباما على تقديم خطتها الأمنية المعادية للشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه الوطنية. وهو ما يحيل إلى ضرورة إجراء مراجعة سياسية فلسطينية إستراتيجية لتصويب مسار عقدين ونصف العقد من رعاية الولايات المتحدة لمفاوضات "مدريد" و"أوسلو"، ومن فصل القضية الفلسطينية عن بعدها القومي، واختزال القرارات الدولية في القرار 242، ومواصلة المفاوضات في ظل مصادرة الأرض واستيطانها وتهويدها.

وباختصار: مخاطر خطة كيري الأمنية على القضية الفلسطينية إستراتيجية والرد السياسي عليها يجب أن يكون إستراتيجياً عبر نقل ملف الصراع إلى هيئة الأمم وإنهاء احتكار الولايات المتحدة له.                     

التعليقات