26/12/2013 - 15:45

رد عربي مقلوب على مقترحات كيري../ علي جرادات

قضية فلسطين الحاضرة في الوجدان الشعبي العربي ستعود عاجلاً أو آجلاً مهماز تحريض على الأنظمة الرسمية العربية

رد عربي مقلوب على مقترحات كيري../ علي جرادات

ثمة رد عربي سياسي مقلوب على مقترحات كيري الأمنية ومخاطرها على القضية الفلسطينية. رد أصدرته جامعة الدول العربية واقتصر على توجيه رسالة لكيري لاستيضاح مقاصد مقترحاته، وكأنها غير واضحة، وعلى تحميل حكومة إسرائيل مسؤولية فشل المفاوضات جراء ما تنفذه على الأرض من استباحة للدم الفلسطيني ومن تصعيد لإجراءات مصادرة الأرض واستيطانها وتهويدها، ومن تهويد للقدس لدرجة وضع تقسيم باحات المسجد الأقصى- مكاناً وزماناً- على جدول الأعمال، وكأن تحميل المسؤولية يكفي للرد على التمادي السياسي والميداني لحكومة نتنياهو الذي أعلن أن حكومته لن ترضخ لأي ضغط بما في ذلك الضغط الأمريكي، (وهو الذي لم يحصل أصلاً)، وأنها لن توقف للحظة مشروعها الاستيطاني في الضفة.

والأنكى هو أن رسالة وزراء الخارجية العرب لكيري تضمنت ما تقبله وما لا تقبله جامعة الدول العربية من مقترحات كيري، وكأن المطلوب هو توضيح حدود تعاطي الجامعة العربية مع هذه المقترحات التنازلات، وليس رفضها والتلويح باستخدام أوراق القوة العربية بالمعنى السياسي على الأقل. ماذا يعني هذا الكلام؟

تحمل مقترحات كيري الأمنية خطراً سياسياً إستراتيجياً على القضية الفلسطينية. لكن ثمة كثيرين، بينهم جامعة الدول العربية، لا يرون الأمر كذلك، تارة بدعوى أن الرجل قدم أفكاراً شفوية قابلة للبحث وليست خطة نهائية متكاملة ومكتوبة، وكأن هذا ليس مقدمة لذاك.

وتارة بدعوى أن مقترحاته لا تعدو كونها استرضاء لحكومة نتنياهو بعد "اتفاق إيران النووي"، وكأن تركيز السياسة الأمريكية الإسرائيلية المشتركة على ملف "النووي الإيراني" وتضخيمه لم يستهدف، فيما يستهدف، تهميش ملف القضية الفلسطينية وتبرير المواقف الأمريكية الداعمة لشروط الرؤية الإسرائيلية، بل المعادية للشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه الوطنية.

وتارة بدعوى أن مقترح كيري القاضي ببقاء الجيش الإسرائيلي على حدود الدولة الفلسطينية العتيدة مع الأردن ربما يفتح على مقترح آخر يقضي بتوسيع حدودها غرب "الخط الأخضر"، وكأن هذا ليس محض وهْمٍ اللهم إلا إذا كان بلا معنى صمت الإدارات الأمريكية عن بناء جدار الفصل السياسي، بما التهم من أراض.

وتارة بدعوى أن مقترحات كيري الأمنية ليست نهاية المطاف بل ستتلوها مقترحات سياسية تتعلق بقضايا الحدود واللاجئين والقدس والمياه والأسرى، وكأن البدء بـ"متطلبات" "أمن إسرائيل ومواطنيها" لا يعني تفصيل أي اتفاق إطار محتمل حول هذه القضايا، (جوهر القضية الفلسطينية)، على مقاس هذه المتطلبات الأمنية المزعومة والمفتعلة حتى برأي جهات أمنية وعسكرية إسرائيلية تعلن أن "أمن إسرائيل في السياسة، وليس في الجغرافيا"، تماماً كما كان أعلن بوش الأب بعد أن طالت الصواريخ المدن الإسرائيلية أثناء العدوان الثلاثيني على العراق في العام 1991.

وتارة بدعوى أنه حتى وإن كانت إدارة أوباما تريد تحويل ما قدمه وما سيستكمله كيري من مقترحات إلى اتفاق إطار لـ"الحل النهائي"، فإن لا داعي للتطير لأن المفاوض الفلسطيني لن يقبل بالعناوين العامة لهذا الاتفاق، فما بالك أن يقبل تطبيق تفاصيله في حال تم التوصل إليه، وكأن ليس بين أهداف خطة كيري تمديد التفاوض لأجل التفاوض تحت الرعاية الأمريكية إلى أجل غير مسمى، وإبقاء العاملين القومي العربي والوطني الفلسطيني عاجزين ومشلولين وفي حالة رهان لسنوات أخرى على هكذا مفاوضات يحكمها ويتحكم بها من الألف إلى الياء اختلال ميزان القوى، وتسير جنباً إلى جنب مع تصعيد إجراءات مصادرة الأرض واستيطانها وتهويدها، بل ويراد لها، أي المفاوضات، أن تقتصر على الضفة وتستثني قطاع غزة إلى حين كما اقترح علناً الرئيس الأمريكي أوباماً، أي كما تريد بالضبط حكومة المستوطنين القائمة بقيادة نتنياهو-ليبرمان، بل كما خططت سياسياً ونفذت ميدانياً منذ العام 1967 حكومات إسرائيل المتعاقبة بالاستناد إلى مشروعيْ، (وللدقة إستراتيجيتيْ)، "آلون" المعراخي و"دبلس" الليكودي.

قيل "حك التقدمي في موقفه من المرأة تجده تافهاً ضيق الأفق". ونقول حك الأنظمة الرسمية العربية في مواقفها من قضية فلسطين ومما يحاك ضدها هذه الأيام من محاولات ذبح سياسي بأيد أمريكية إسرائيلية مشتركة تجد أنها، (الأنظمة)، عاجزة وتقبع في واد غير واد "قضية العرب الأولى". ما يعني أن الأنظمة العربية الحالية، "قديمها" و"جديدها"، لم تتعلم من انتفاضات شعوبها، بل لم تتعلم الدرس من تساقط أو اهتزاز ما سبقها من أنظمة جراء تواطؤها أو تخاذلها عن أداء واجبها القومي المفروض تجاه القضية الفلسطينية، وخاصة في محطات الصراع العربي الإسرائيلي الفاصلة. إذ ألم يكن تواطؤ أنظمة ما قبل "النكبة" مع المشروع الصهيوني السبب المباشر والأساس في انطلاق موجة إطاحتها وتحقيق الاستقلال الوطني في الأقطار العربية الأساسية؟ وألم تكن فاجعة هزيمة العام 1967، واحتلال ما تبقى من فلسطين، علاوة على سيناء والجولان، سبباً مباشراً وأساسياً أيضاً في اهتزاز أركان وتحديد مصير أنظمة ما بعد النكبة رغم ما حققته من إنجازات قومية ووطنية واجتماعية؟ وألم يكن نهج عقد الصفقات السياسية على حساب القضية الفلسطينية بعد الانتصار الميداني للجيوش والشعوب العربية في حرب العام 1973 سبباً مباشراً وأساسياً في اهتزاز نظام السادات رغم أنه-أساساً- من قرر شن هذه الحرب؟ ثم من قال إن عقد بقية الأنظمة العربية للصفقات على حساب القضية الفلسطينية منذ "مؤتمر مدريد" في العام 1991، لم يكن، (علاوة على المشاركة في العدوان الثلاثيني على العراق وصولاً إلى احتلاله وتدميره)، سبباً أساسياً، وإن غير مباشر، في تصاعد غليان مرجل الشعوب العربية وصولاً إلى انفجارها المدوي في انتفاضات ما زالت مستمرة ويصعب التنبؤ بنتائجها النهائية، لكنها في الحالات كافة أطاحت برأس أكثر من نظام عربي؟ وكذا من قال إن عجز، (كيلا نقول تواطؤ)، الأنظمة العربية عن مواجهة ما تحمله مقترحات كيري الأمنية من خطر سياسي إستراتيجي على قضية الشعب الفلسطيني وأهدافه وحقوقه الوطنية لن يكون ذريعة بين ذرائع أساسية تستخدمها قوى التكفير والتقتيل والتدمير "الإسلاموية" لتوسيع وتعميق انتشارها في الوطن العربي كما تنتشر النار في الهشيم؟ كيف لا بينما يعلم الجميع أن عجز الأنظمة العربية عن تحمل مسؤولياتها القومية تجاه القضية الفلسطينية كان بين الأسباب الأساسية لتنامي وتعاظم قوة حركات "الإسلام السياسي"، بل حركات "الإسلام الحزبي" على ما يرى بدقة أكثر الكاتب والمفكر العربي المغربي عبد الإله بلقزيز؟

بقي القول: موقف جامعة الدول العربية من مقترحات كيري الأمنية لم يقلب-عن قصد- مخاطرها الإستراتيجية على القضية الفلسطينية، فحسب، لكنه، وهنا المفارقة، يعكس إصراراً على الارتهان للمواقف الأميركية المعادية لهذه القضية، بينما يشهد ميزان القوى الدولي تحولات كبرى في غير مصلحة حليف إسرائيل الإستراتيجي الثابت، الولايات المتحدة التي تسير بتسارع نحو التحول إلى قوة عظمى بين قوى أخرى تنافسها بقوة في ظل ما تعانيه من أزمة اقتصادية بنيوية، ومن فشل متتابع لحروبها ولسياساتها الخارجية، عموماً، والشرق أوسطية، خصوصاً. بل وفي ظل حراك شعبي عربي يشكل في جوهره العام حالة استفاقة تعزز الأمل بالتغيير لمصلحة القضية الفلسطينية على المدى البعيد وربما المتوسط، ذلك رغم كل محاولات إجهاضه وحرف مساره عن أهدافه الحقيقية. فقضية فلسطين الحاضرة في الوجدان الشعبي العربي ستعود عاجلاً أو آجلاً مهماز تحريض على الأنظمة الرسمية العربية، خاصة في ظل دخول إسرائيل وحلفائها على خط التحولات الشعبية العربية بغرض تحقيق اختراق إستراتيجي آخر في جبهة الصراع تعكس جوهر مبتغاه خطة كيري التي تستخدم انكفاء مراكز القوة العربية على همومها الداخلية، وانشغال العامل الوطني الفلسطيني بانقساماته والتباساته وعدم مبادرته لإخراج ملف الصراع من قبضة الولايات المتحدة ونقله إلى رعاية هيئة الأمم المتحدة ومرجعية قراراتها، الأمر الذي لا يمكن بلوغه من دون توحيد الصف الوطني على أساس إستراتيجية سياسية بديلة موحَّدة وموحِّدة من شأنها أن تحرج الأنظمة الرسمية العربية، وأن تفضح عجزها، وأن توتر قوس الشعوب العربية المنتفضة، عموماً، وقوس الشعب العربي الفلسطيني المثقل بجرائم الاحتلال وارتكاباته واستباحاته، خصوصاً.

التعليقات