27/11/2015 - 18:14

مواجهات عند حواجز الثقافة/ إياد برغوثي

تطفو الصراعات، التي معظمها سياسيّة مغلّفة بالعقائديّة والفكريّة، حول المساحة المتاحة للثقافة داخل المجتمع، على سطح الرأي العامّ عندما تقرّر نخب دينيّة سياسيّة معيّنة إعادة ترسيم وتثبيت حدود هذه المساحة...

مواجهات عند حواجز الثقافة/ إياد برغوثي

إياد برغوثي

تكشف لنا مراجعة سريعة للقضايا والنقاشات التي أثيرت، والصدامات المختلفة التي دارت رحاها، في السنوات الأخيرة، حول 'أحداث' ثقافيّة ذات صلة بالفلسطينيّين في مناطق الـ 48، مثل قضية 'مسرح الميدان'، وفيلم 'فيلّا  توما'،وعرض فرقة 'وطن عَ وتر'، ورواية 'أورفوار عكّا'، ودبكة 'أم الفحم'، والسجالات المتواصلة حول التطبيع والتواصل والأسرلة الثقافيّة، عن تعقيد الحالة 'الثمانأربيعينيّة' -إن جاز التعبير-، وعن تشابك الحواجز التي تعيق الحركة الثقافيّة الفنّيّة وتُعَثّرها.

لذا، تأتي هذه المقالة السريعة الخطى لتحاول تسمية هذه الحواجز المتشابكة، ولترتّب، وإن على نحو أوّليّ وعامّ، مشهدًا مركّبًا ومتعدّد الأبعاد. الحواجز تخلق حدودًا للحركة، وبذلك تُحدّد مساحات الفعل الممكنة، وعند الاقتراب منها لتجاوزها أو إزالتها تحدث المواجهات بين القوى المختلفة.   

مدخل دلاليّ قبل الحواجز

قبل تسمية الحواجز والإشارة إلى مكوّناتها، كما أراها، ولتجنُّب أيّ  الْتِباس مفاهيميّ، لا بدّ من توضيح الإطار الدلاليّ لمصطلح 'الثقافة' المستخدَم في هذه المقالة، وهو يعني هنا بالأساس: صناعة الفنون، أي الإنتاج والنشر في مختلف مجالات التعبير الفنّيّ والأدبيّ الإبداعيّ؛ الفنون الأدائيّة، كالمسرح والرقص، والفنون البصريّة، كالفنون التشكيليّة والتصوير الفوتوغرافيّ والسينما، والموسيقى، وفنون التصميم، والكتابة الأدبيّة على أنواعها، والصحافة الثقافيّة والنقد الفنّيّ، بالإضافة إلى الحِرَف اليدويّة والصناعات الإبداعيّة المستخدَمة، وما تحمله وتجسّده وتنقله وتتصادم معه كلّ هذه المنتجات من معانٍ وأفكار ومشاعر وقيم ومعتقدات.

من الجدير بالذكر أنّ العرب قديمًا استخدموا كلمة 'صناعة' للدلالة على ما يسمّى الآن 'فنًّا'، فقد تحدّث، مثلاً، ابن خلدون في مقدّمته عن 'صناعة الغناء'.

هذا التعريف مرتبط دون شكّ  بالحقل الدلاليّ للمفهوم السوسيولوجيّ-الأنثروبولوجيّ للثقافة، المتعدّد التعريفات بحدّ ذاته، إذ ركّب أو صاغ عالما الاجتماع (إنغليز وهيوسون) معنى 'الثقافة' من ستّة أجزاء، وهو -بحسبهما ويإيجاز شديد-: الثقافة مكوّنة من أنماط فكريّة قيميّة وسلوكيّة شائعة بين مجموعة من الأفراد، تميّزها عن المجموعات الأخرى وتحدّد هُويّتها، تحتوي على معنى، وتتجسّد في رموز من صنع الإنسان، تُعلَّم وتُنقَل من جيل إلى جيل، واعتباطيّة معرّضة للتغيير مع تغيُّر الظروف. المفهومان (الصناعيّ والسوسيولوجيّ الأنثربولوجيّ) متشابكان بدون شك، فكلّ عمليّة إنتاج لمنتَج إبداعيّ ما تنبثق عن أنماط فكريّة سائدة وقيم وإرث رمزيّ ومادّيّ، ثمّ بعد نشره يُضاف إلى 'الثّقافة'، بالمفهومين، كمكوّن جديد.

لنَعُدْ إلى الحواجز.            

١. حاجز التمويل:

وهو أكثر حاجز سأتوقّف عنده في هذه المقالة، لأهمّيّته.

كما هو معلوم، كلّ  عملية إنتاج ونشر لإبداع فني تحتاج إلى تمويل، أو استثمار. وعلى هذا الأساس، فإنّ المنتَج الثقافيّ هو منتَج اقتصاديّ  بالضرورة، له تكلفة إنتاج وأحيانا قيمة مادّيّة تبادليّة، بالإضافة إلى قيمته الروحيّة المعنويّة والفكريّة. كذلك إنّ فضاءات العرض الثقافيّ، من قاعات وصالات عرض ومعاهد تدريب، هي مساحات لها قيمتها العقاريّة وتكاليف إنشاء وصيانة وتفعيل. كما في مجالات النشاط الإنسانيّ المختلفة، من يدعم بالمال يقرّر الأعمال، أي يحدد الأَجِنْدة والمضمون والهُويّة. كلّ  دعم وراءه مصلحة ما، وكما أن المعرفة تخضع للمصلحة، كذلك هي الثقافة.

الدور التمويليّ، أو الداعم مادّيًّا، للثقافة تقوم به عمومًا: (1) الدول من خلال وزارات الثقافة والمجالس المحلّيّة واللجان الوطنيّة العليا للثقافة والفنون وصناديق الدعم التابعة لها، كجزء من عمليّة بناء الهُويّة الجماعيّة والدمج الاجتماعيّ، والهيمنة الثقافيّة للنخبة، وكمحرّك في مسارات التنمية والسياحة، وكأداة في العلاقات الخارجيّة؛ (2) شركات الإنتاج والترويج الخاصّة، في حالة الفنون الجماهيريّة-الشعبيّة الترفيهيّة ذات الرواج الواسع والإمكانات الربحيّة، كما هو الشأن في الموسيقى والسينما والأدب؛ (3) صناديق الدعم التابعة لمؤسّسات مجتمع مدنيّ، محلّيّة أو دوليّة، معنيّة بالشأن الثقافيّ؛ (4) تمويل ذاتيّ، أو نماذج تعاونيّة قطاعيّة ومشاريع ومبادرات استقلاليّة المنحى ومدرّة للدخل من خلال دعم الجمهور للمبادرة.

هناك أزمة ومعضلة تمويل غير بسيطة إطلاقًا للقطاع الثقافيّ العربيّ الفلسطينيّ في مناطق الـ 48، في ما يتعلّق بالتمويل الحكوميّ. المعضلة تكمن في أنّ الحصول على هذا التمويل هو حقّ مدنيّ لمواطنين دافعي ضرائب، من جهة، لكن إسرائيل، من جهة أخرى، كثيرًا ما استخدمت فتات التمويل الحكوميّ للثقافة العربيّة كأداة للسيطرة على مضامين وتوجُّهات وهُويّة الإنتاج الثقافيّ، وكأداة للأسرلة الثقافيّة أي خلق 'ثقافة عربيّة-إسرائيليّة'، أو كأداة للعلاقات العامّة للترويج لـِ 'التعدديّة الثقافيّة' وَ 'التعايش' في إسرائيل.

حيال هذه المعضلة، ثمّة خياران أساسيان: عدم الحصول مطلَقًا على هذا التمويل للحفاظ على الاستقلاليّة والهُويّة الوطنيّة (المتناقضة بالضرورة مع التمويل الإسرائيليّ ومساعيه) وحرّيّة التعبير والإبداع، والبحث عن مصادر تمويل من صناديق أخرى -وهي نادرة (ولا سيّما للمشاريع الفلسطينيّة من مناطق الـ 48) وتتطلّب جهودًا مهنيّة كبيرة لتحصيلها، ولا تضمن بأيّ حالٍ الاستدامةَ-. أمّا الخيار الثاني، فهو الحصول على الدعم الحكوميّ كمصدر تمويل وحيد وَ 'مضمون' يضمن الاستقرار، لكنّه وإن لم يجعلها بالضرورة متواطئة معه، يربط مصير الجمعيّات الحاصلة عليه بالوزارة، وهذا حال السواد الأعظم من 'الجمعيّات الثقافيّة العربيّة' في الداخل.

الإشكاليّة لا تقف عند إنتاج الجمعيّات لثقافة 'مقبولة' غير مهدِّدة داخل المساحة المتاحة من قبل السلطة المموّلة، بصورة طوعيّة أو بعد توجيه سياسيّ واضح، ولا ما تفرضه هذه البنْية من علاقات قوّة وهيمنة وأَجِنْدات وخطاب، بل تتجاوز ذلك إلى كون هذا الوضع غير صحّيّ مؤسّساتيًّا، إذ إنّ الاعتماد على مصدر تمويل واحد هو خيار خاطئ إداريًّا وماليًّا ومهدِّد لاستمرار وجود المشروع الفنّيّ /الجمعيّة؛ لا لكون 'البَيْض' كلّه في سلّة واحدة فحسب، بل لأنّه ثمّة دجاجة واحدة معادية وحدها في القنّ، إذا قرّرت الفرار أو العقاب فسيُغلق القنّ.

وإذا نظرنا إلى قضيّة مسرح 'الميدان' ومسرحيّة 'الزمن المُوازي'، من هذه الزاوية، فإنّ المشكلة حدثت عند الاصطدام بحاجز التمويل، أي عندما اكتشفت السلطة الإسرائيليّة 'تجاوُز' المسرح للحدود التي وضعتها له على مستوى المضامين والمواقف 'المقبولة' عليها، مستغلّة الظرف لتؤكّد من هو 'السيّد' المموِّل الّذي يقرّر المضامين والهُويّة، لتعلن على الملأ، بعد هذه القضيّة، عن عدم الفصل بين 'حرّيّة التعبير' وحرّيّة 'التمويل'، والقصد هنا حرّيّة الدولة في وقف التمويل (!) بسبب مضامين الإنتاج الثقافيّ، وعن توضيحها الرسميّ لمعايير سياسيّة للحصول على هذا التمويل، أهمّها: عدم المسّ بيهوديّة الدولة وعَلَمها ورموزها، وعدم إحياء ذكرى النكبة، والدعوة إلى المقاطعة.

كذلك إنّ حدّة الاصطدام بهذا الحاجز زادت عند 'اكتشاف' المسرح ذاته أنّه يعتمد على مصدر واحد أساسيّ (رسميّ: حكوميّ وبلديّ)، وأنّهم بمنعهم الميزانيّات عنه سيغلق أبوابه إنْ تمسّك بحرّيّته الفنّيّة، ولا سيّما أنّه لا يملك فضاء أو مبنًى له بملكيّته ولم يبنِ أيّة قاعدة جماهيريّة حقيقيّة داعمة ومتفاعلة، ولا جهازًا تنظيميًّا لتطوير الموارد المتنوّعة المصادر.

٢. الحاجز الاجتماعيّ- العقائديّ:

وهو أصعب الحواجز وأكثرها إهمالاً على مستوى الخطاب وأولويّات العمل.

زادت هيمنة الحركات الإسلاميّة وأنماطها الفكريّة والسلوكيّة على قطاعات واسعة من مجتمعنا، المحافِظ أصلاً، من محدوديّة نشر الفنون فيه، لأكثر من سبب، أهمّها: 1. تحريم الفنون، وخصوصًا الموسيقى والرقص والنحت والسينما، بحسب بعض التفسيرات الدينيّة السائدة؛ 2. تحريم الاختلاط بين الرجال والنساء في الحيّز العامّ؛ 3. الوصاية الدينيّة المتّخِذة لنفسها مهمّة تحديد المضامين غير المسموح بها في الفنون 'المسموح' بها، وبخاصّة المواضيع ذات الصلة بالدين نفسه، وبالجنس وحرّيّة الجسد كموضوع شاغل البال على الدوام. والمقصود هنا، عمومًا، رفْض الحركات الدينيّة للدور الذي اتّخذته 'الثقافة والفنون' على نفسها كمحرِّرة للمجتمع ومغيّرة له ومعبّرة عن الشعب، وكمساحة للأسئلة حول التجربة الإنسانيّة، وكمنافس أساسيّ لها في استقطاب الجماهير وتقديم رؤًى فكريّة بديلة ومعنى للوجود الجماعيّ.

ليس هنا المجال لخوض نقاش حول حقيقة الموقف الفقهيّ والدينيّ الإسلاميّ من الفنون، وحول تبايُن التأويلات والتفسيرات من المسألة، ولا في سرد تاريخ الفنون الإسلاميّة وتطوُّرها وازدهارها مثل فنون الخطّ العربيّ والنقش وصناعات الحِرَف اليدويّة والعمارة والموسيقى، خلال حقب مختلفة من تاريخ الحضارة الإسلاميّة، ولا حتّى في الاستخدام المُعاصر لهذه الفنون من أجل 'نشر الدعوة'، رغم أهميّة كلّ هذه الأمور وصِلَتِها بالنقاش.

تطفو الصراعات، التي معظمها سياسيّة مغلّفة بالعقائديّة والفكريّة، حول المساحة المتاحة للثقافة داخل المجتمع، على سطح الرأي العامّ عندما تقرّر نخب دينيّة سياسيّة معيّنة إعادة ترسيم وتثبيت حدود هذه المساحة، من خلال تسليط الضوء التحريضيّ على 'منتج' أو 'حدث' ثقافيّ يمْكنها من خلاله استعادة السيطرة وإعادة اصطفاف جماهير القاعدة الاجتماعيّة التابعة لها (وبخاصّة في السياق المحلّيّ في بلدة معيّنة) ضدّ نُخَب منافسة، سياسيّة عَلمانيّة، أو ثقافيّة عَلمانيّة، تطرح نمطًا فكريًّا وسلوكًا اجتماعيًّا مغايرًا لها جذريًّا.

من هذا المنظور، يمكننا فهم التحريض ضدّ اختيار الشاعر علي مواسي، أستاذ اللغة العربيّة في مدرسة في مدينته باقة الغربيّة، تدريسَ رواية 'أورفوار عكّا' للكاتب علاء حليحل لطلّابه كرواية من خارج المنهاج. حرّضوا ضدّ الرواية لمضامينها 'غير المسموح بها'، وولوجها مساحة 'حرام'، وكذلك ضدّ الأستاذ الشاعر والكاتب، وما يمثّلانه من أفكار وتوجُّهات سياسيّة ثقافيّة عَلمانيّة، لإقصائهما ولتحديد نشاطَيْهما، وتحذير الآخرين من معركة تكفير إنْ تجاوزوا الحواجز. وكذلك الأمر في قضيّة 'دبكة أمّ الفحم' ومسرحيّة 'وطن عَ وتر'.

إذًا، تحدّد هيمنة فكر الحركات الإسلاميّة والتوجُّهات المحافظة على قطاعات واسعة من مجتمعنا إمكانات نشر الثقافة والفنون فيه، ولا سيّما تلك 'الجريئة' في مضامينها، ويبقى سؤال الحركة الثقافيّة هو كيفيّة توسيع القاعدة الاجتماعيّة والجماهيريّة في هذا السياق، وهو ما يتطلّب منها البحث بجِدٍّ وجهد عن طرق مبدعة للوصول إلى الجمهور الواسع، وعدم الانكفاء في فقاعات بوهيميّة هي بذاتها حواجز اجتماعيّة. وهذه مسألة ذات صلة بالرؤى الفنّيّة وبالإستراتيجيّات التسويقيّة، وبالتعاون القطاعيّ، والشراكات مع مؤسّسات مؤثّرة مثل المجالس المحلّيّة والمؤسّسات التربويّة، ومع قوى اجتماعيّة وسياسيّة معنيّة بنشر الثقافة والفنون.

على أيّ حال، الانتشار والرواج الجماهيريّ ليسا هما المعيار الأساسيّ لتقييم النتاج الإبداعيّ الفنّيّ أو الأدبيّ، ولا سيّما في الفنون المعاصرة، لكن قدرة الحِراك الثقافيّ بعامّة، في منطقةٍ ما، على الوصول إلى جمهور واسع هو دلالة هامّة على حضوره وأثره.

وفي هذا الإطار، لا بدّ أنّ أحذّر من القبول فكريًّا بنمط التفكير 'الثنائيّ-القطبيّ'، أي كأنّ المسألة فعلاً هي فقط صراع بين متديّنين وعَلمانيّين، وهو برأيي نمط تفكير محدود وعاجز، ورضوخ لمنطق المتعصّبين. الدين هو مكوِّن أساسيّ للهُويّة الثقافيّة والحضاريّة، وحياة الناس وواقعهم، وليس ملكًا لحركات سياسيّة أو قوى معيّنة، وقد يكون مصدرَ إلهام كبيرًا فكريًّا ورمزيًّا لمختلف التعبيرات الإبداعيّة. والأصحّ أن تبقى التعدّديّةُ الرؤيةَ الأهمّ للتحليل والفهم، وكذلك لاتّخاذ الموقف والفعل.

٣. الحاجز السياسيّ الجغرافيّ:

الثقافة، كما يحبّ أن يتغنى بها الرومانسيّون المثاليّون، لا تعرف الحدود، بل تحلّق فوقها وتنساب من تحتها. وهي ليست بالضبط كذلك في الواقع. وخصوصًا في حالتنا. بل يمكننا الاكتفاء بالقول إنّنا نريدها أن تكون كذلك.

هناك حواجز فعليّة ذهنيّة وسياسيّة جغرافيّة وقانونيّة حقيقيّة ومعقّدة تمنع التواصل الثقافيّ الطبيعيّ بين الناس في المنطقة العربيّة، وحتّى داخل مناطق فلسطين التاريخيّة، بسبب ظروف الصراع الصهيونيّ العربيّ الممتدّ منذ عقود، وبسبب كلّ الحدود والصراعات الداخليّة التي ازدادت عنفًا وتعقيدًا في السنوات الأخيرة.

لقد عشنا في عزلة هنا في وطننا بعد نكبة العام 1948، ومررنا بتجارب وتحوّلات سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة عديدة، وكان لكلّ تغيير في العلاقات الإقليميّة، وكذلك في وسائل الاتّصال والتواصل، أثرٌ علينا وعلى ثقافتنا، أي على رؤيتنا لذاتنا ثقافيًّا، وعلى مكوّنات هُويّتنا الثقافيّة وممارساتها وتناقضاتها، وعلى إزالة بعض الحواجز السياسيّة الجغرافيّة وتثبيت أخرى.

لا مجال هنا للخوض في التفاصيل، لكن باختصار نشير أنّ الحاجز الأساسيّ لنشر ثقافتنا في مساحتها الطبيعيّة هو حيازة المواطَنة الإسرائيليّة، وتحديدها الفعليّ للتواصل مع الدول العربيّة وجمهورها وحركاتها الثقافيّة، وكذلك اعتبار بلادنا المحتلّة منطقة 'محرَّمة' كون زيارتها تطبيعًا مع إسرائيل، في نظر النقابات الفنّيّة والحركات المُناصِرة لحقوق الشعب الفلسطينيّ. الطريق مغلقة في الاتّجاهين.

نحن ننتج ثقافة عربيّة، نكتب ونغني ونمثّل بالعربيّة، ونبدع من داخل التجربة العربيّة والفلسطينيّة وإرثها، لكنّ إنتاجنا، عمومًا، ممنوع من السفر، وأفق تحقيق الذات، ثقافيًّا، ضيّقٌ ضيّقٌ. هناك تغيُّرات هنا وهناك، مجموعة أكثر وعيًا بخصوصيّتنا، أو أقلّ. فنّانٌ أو مبدع فردٌ ينجح في اختراق الحاجز واعتلاء خشبة دار الأوبرا في القاهرة  أو المشاركة في مسابقة ما أو في برنامج تلفزيونيّ عربيّ، وقد يعرّض نفسه للملاحقة الأمنيّة، لكن الحواجز الأساسيّة في مكانها.

وبسبب هذا الحاجز، قامت الثقافة بدَوْر فعليّ في التعبير عن وجودنا وتجربتنا، وأوصل وكلاؤها صوتنا إلى العالم العربيّ والعالم، لكن الانحصار في هذا الدور، بسبب ثبات الحواجز، هو نفسه ما يحدّد انطلاقها الإبداعيّ الفنّيّ لانشغالها الدائم في الحصول على 'الشرعيّة' وتبرير ذاتها ووجودها وهُويّتها الفلسطينيّة والعربيّة. قد ينجح فنّان أو كاتب ما في التعبير عن الحالة، لكنّنا نجد أنّنا في ظلّ عدم التراكم الكافي نبدأ الشرح من الصفر كلّ مرّة من جديد.

هناك نوعان من الصدامات ينشآن عند هذا الحاجز: الأوّل، عند زيارة أو مشاركة فنّانين عرب في أحداث ثقافيّة في مناطق الـ 1948، في حالات مثل حفلة فرقة 'أوتوستراد' الأردنيّة، وَ 'ظافر يوسف' التونسيّ، والشاعر المصريّ 'هشام الجخ' وآخرين، وقد زادت حدّة هذه النقاشات مؤخَّرًا مع ازدياد أثر حملات المقاطعة الأكاديميّة والثقافيّة لإسرائيل، وهي تدور بين ناشطين ومثقّفين ومنظِّمين فنّيّين، وتتمحور حول مفهومَيِ 'التواصل' وَ 'التطبيع'، وتحديدًا بين من يقول إنّ دخول 'إسرائيل' بجواز سفر عربيّ هو تطبيع وخرق لمعايير المقاطعة ممّا يسبّب أذًى سياسيًّا للقضيّة، حتّى لو كان العرض لجمهور فلسطينيّ، وطرف آخر يرى الحدث تواصلاً ثقافيًّا في فلسطين التاريخيّة رغم الاحتلال. هناك حاجة إلى خلق توافق حول هذه المسألة، ولا سيّما أنّنا نشخّص توافقًا في الكثير من الأهداف والمنطلقات السياسيّة بين الناشطين المتناقشين، توافقًا يضمن التواصل ولا يضرّ بالقضيّة الفلسطينيّة.   

أمّا النوع الثاني من الصدامات، فتكون عند مشاركة فنّانين فلسطينيّين بإنتاجات أو أحداث ثقافيّة إسرائيليّة، أو ذات صلة بإسرائيل، في البلاد أو خارجها، وهي صدامات داخليّة، تكون -في الغالب- ذات صلة بمفهوم الأَسْرلة، ترسم من خلالها النُّخَب الثقافيّة والإعلاميّة الفلسطينيّة هي نفسُها المساحةَ المتاحة للعلاقة مع الدولة العبريّة. المواجهات لا تحدث عند كلّ تماسّ مع الإسرائيليّين، بل تحدث عند الاصطدام في حدود هذا الحاجز، وهي عمومًا: تمثيل إسرائيل في محافل ثقافيّة دوليّة شهيرة، مثل مشاركة ميرا عوض في مسابقة الأورفزيون الغنائيّة، أو المشاركة في احتفالات 'وطنيّة إسرائيليّة' مثل احتفالات الاستقلال، أو في أحداث ثقافيّة في القدس والمناطق المحتلّة عام 1967، مثل مهرجان 'العود'، وكذلك في حالة المشاركة في إنتاج فنّيّ مسيء للعرب أو إشكاليّ سياسيًّا.

أكتفي في هذه المقالة باستعراض حواجز هذه الفترة وأنواع مواجهاتها الأساسيّة، كما أراها، بعد أن تجاوزت بكثير عدد الكلمات التي طلبتْها منّي المحرّرة. الصدامات لن تنتهي. فالدنيا صراع مستمرّ متغيّر. ستتغيّر الأسماء والمواضيع، وستَرسم المواجهات القادمة، من جديد، حدودَ المساحات المتاحة للثقافة، وتثبّت الحواجز في مواضع جديدة مختلفة، أو قد تعيدها إلى مواضع اعتقدنا أنّنا تجاوزناها. ونبقى على أملٍ، وفعلٍ، أن نستطيع إزالة الحواجز المعيقة لتكون الثقافة في متناول الناس، وليكون للمبدعين آفاق انطلاقاتههم الحرّة.  

(المقالة نشرت في العدد 24 من مجلة 'جدل' الإلكترونيّة الصادرة عن مدى الكرمل)

التعليقات